الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 19 يونيو 2021 - 9 ذو القعدة 1442هـ

حقيقة التلازم بين الأشاعرة والمذهب الشافعي (1)

كتبه/ أحمد حسين أبو مالك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد بات مَن المُسلَّم به عند كثيرٍ مِن طُلَّاب العِلْم؛ لا أقول طلاب المذهب الشافعي فقط، ولكن عند الكثير مِن طلاب العلم الشرعي والمشتغلين بالفقه: أن هناك تلازمًا ‏بين المذهب الشافعي وعقيدة الأشاعرة، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا في عصر متأخري المذهب وإن جَرى على ذلك الفتوى والترجيح، ‏ولكن ثَمَّ تلازم ‏عند كثيرٍ من طلاب العلم والمشتغلين بالفقه أنه: ما دمتَ شافعيًّا؛ فأنتَ أشعري!

والمتأمل بتجردٍ ‏لنصوص الإمام الشافعي وأصحابه مِن بعده، بل حتى القرن السادس الهجري؛ يَرَى أن هذا التلازم في أذهان متعصبي المتأخرين، وهذا واقع ملموس في انتشار عقيدة الأشاعرة في عصور التقليد والتعصب المذهبي، أما أن يُنكر عليك الاشتغال بالمذهب الشافعي علمًا وتفقهًا، ولا تكون على معتقد الأشاعرة؛ ففي الحقيقة ليس هناك تلازم حتى القرن السادس الهجري بين مذهب الشافعي وأصحابه وبين الأشاعرة، وسنحاول أن نوضِّح كيف كانت نظرة العلماء وذمهم لعلم الكلام في أمور الاعتقاد والانشغال به حتي من خارج المذهب الشافعي.  

‏واسمع إلى ما يقوله الحسن بن أبي بكر النيسابوري في إشارة له إلى المنازعات الكلامية لدى أصحاب المذاهب الثلاثة: الشافعي والحنفي والحنبلي، فقال -رحمه الله-: "كن شافعيًّا ولا تكن أشعريًّا، وكن حنفيًّا ‏ولا تكن معتزليًّا" ‏(نقله ابن الجوزي في المنتظم، 10/ 106)، ‏فيوضِّح أن كل مذهب فيه من جانبه الصواب في الاعتقاد، وها هو الوزير العالم ابن هبيرة الحنبلي يقول: "والله ما نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة نحن أحق به منهم؛ لأنه منَّا ونحن منه، ولا نترك الشافعي مع الأشعرية؛ فإنا أحق به منهم) ‏(ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب، 2/ 165).

‏وها هو رأس المذهب وإمامه الشافعي -رحمه الله ورضي عنه-؛ يحكي لنا الربيع وهو مِن خُلص أصحابه أن الشافعي قال له: "لو أردت أن أضع على كل المخالفين كتابًا لفعلت، ولكن ليس الكلام مِن شأني، ‏ولا أحب أن يُنسب إليَّ منه شيء"‏ (الذهبي في السير 30/ 10).

بل نص الشافعي -رحمه الله- على ما هو أوضح من ذلك في ذم علم الكلام، فقال: "لو أن رجلا ‏أوصي بكتبه من العلم لآخر ‏وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية؛ لأنه ليس من العلم" (السير للذهبي).

فانظر إلى حسن معتقده - رحمه الله- وإخراجه لعلوم الكلام "خاصة المذمومة" مِن جملة العلوم النافعة، وهل كان مذهب الشافعي تأويل الصفات وانتهاج علم الكلام، وهو القائل للربيع: لا تشتغل بالكلام؛ فإني اطلعتُ من أهل الكلام على التعطيل" (سير أعلام النبلاء 10/ 28).

وقال الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادَى عليهم: هذا جزاء مَن ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" ‏(سير أعلام النبلاء 10/ 29، صون المنطق، ص 65، الحلية 9/ 16، مناقب الشافعي 1/ 462).

فكل صاحب بصيرة يعلم ما عليه هؤلاء من زيغ وضلال، وإن سماهم الإمام السبكي -غفر الله له- بأهل السنة زورًا وبهتانًا، بل ذمَّ كثيرٌ مِن الفقهاء وإن كانوا متكلمة طريقتهم في التفكير في الفروع، وإن ارتضوا ذلك في الأصول.

وإذا أردنا تطبيق ذلك عند كبار فقهاء الشافعية، وعلى رأسهم: إمام مِن أئمة المتكلمين، وصاحب أكبر موسوعة فقهية في المذهب "نهاية المطلب" إمام الحرمين الجويني، فقال -رحمه الله-: "إن اعترض متكلفٌ من أهل الكلام على الفقهاء في فرقهم بين المجاورة والمخالطة، فزعم أن الزعفران ملاقاته أيضًا مجاورة فإن تداخل الأجرام محال. قلنا له: مدرك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذه المآخذ، بل تأخذ مما يتناوله أفهام الناس؛ لا سيما فيما بني الأمر فيه على معنى) (نهاية المطلب‏ 1/ 10).

فها هو -رحمه الله- يرفض تكلُّف المتكلمين للبحث العقلي في أمرٍ ليس من شأنهم، ولا تناسبه أصولهم المنهجية، ولا طرائقهم في البحث والنظر، وإنما ينبغي أن يرجع فيه إلى الشرع واللغة‏ بعيدًا عن تكلف المتكلمين ومسالكهم في لي عنق النصوص.

فسبحان الله! لم يصبر على تلك السفسطة في مسألة دقيقة غير محتاج اليها في الغالب عند الناس، وهي في كتاب الطهارة، ويطيل النَّفَس فيما هو أهم مِن ذلك، ويرضى طريقتهم في التفكير العقدي، وفي اعتقاد الناس  في صفات ربهم؛ فلو كان هذا ديدنه في التعامل مع النصوص العقدية كان أولى! فسبحان الهادي إلي سبيل الرشاد.

‏إن أصول الإمام الشافعي -رحمه الله- الذي جمع بين الفقه والحديث، ومذهبه في تعظيم السنة لا غبار عليه، والرد على مَن طعن في ثبوتها أو حجيتها، ‏وقد ذمَّ الإمام الشافعي -رحمه الله- مذهب المتكلمين وطريقته فيما لا يسع المقال ذكره، وإن وقفنا على بعضه كما مَرَّ معنا؛ ‏فمتى نُقِل عن الشافعي موافقة أهل الكلام في غيهم، وأين كلام الأصحاب في كتبهم ‏مِن مثل هذا الهراء حتى يكون هناك تلازم لا ينفك بين الشافعية والأشاعرة قديمًا وحديثًا.

إن المذهب الشافعي لم يكن حكرًا على التيار الأشعري الذي غلب عليه فيما بعد، ‏بل ما زالت كتب الإمام وكبار علماء المذهب في القرون الخيرية الأولى وحتى القرن السادس: كابن سريج، ‏والإمام العمراني صاحب البيان، وشيخ الشافعية في اليمن في عصره، وقد أكثر النووي -رحمه الله تعالى- النقل عنه في شرحه في كتابه الماتع: "المجموع في شرح المهذب"؛ ‏فهل يمنع في عصرنا الانتماء الفقهي ‏للمذهب الشافعي لمن كانت عقيدته مطابقة لعقيدة السلف والإمام وأئمة المذهب في القرون الأولى؟! والمتأمل لتعاملهم مع أهل الكلام يجد الزجر الشديد منهم، والشدة في مواجهة تلك البدعة المنكرة.

‏قال أبو عاصم العبادي  (ت: 458) ‏في ترجمة الفقيه الشافعي أبي بكر أحمد بن إسحاق الصّبغي (ت: 342)، ‏وكان هو والثقفي يقرآن على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكانا قد قرأ ‏الكلام على الأشعري في أنه حرم عليهما الرواية عنه) (طبقات الفقهاء لأبي عاصم 99)، ‏وسألوه: "ما الذي أنكرت أيها الأستاذ مِن مذاهبنا حتى نرجع؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية؛ فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب وعلى أصحابه" (سير أعلام النبلاء 14/ 380).

وأما شيخ المذهب وإمام ‏طريقة العراقيين من الأصحاب: الإمام أبو حامد الإسفرائيني (ت: 406)، ‏فيقول عنه أبو الحسن الكرجي: "‏وكان الشيخ أبو حامد شديد الإنكار على الباقلاني، وأصحاب الكلام، ‏وكان ينهى أصحابه عن الكلام وعند الدخول على الباقلاني".

‏ومما يذكر أيضًا في ترجمة الوالد الشيخ العمراني (ت: 585) ‏صاحب البيان: "أنه قد ظهر من ولده طاهر الميل والتظاهر بخلاف المعتقد الذي عليه والده، وغالب فقهاء العصر من غالب أهل الجَنَد ‏خاصة، فشق ذلك على الشيخ وهجر ولده هجرًا شاقًّا، وكان ذلك سنة 554 هـ، ‏ثم إن طاهرًا لم يطق ‏على هجر أبيه ‏ولا هجر الفقهاء، ‏وعلم ألا زوال لذلك إلا بإظهار التوبة، وتبرأ عما كان أظهره، ‏فلم يزل يتلطف على والده بذلك وإرسال منَ يقبل الشيخ منه، فقال للرسول: لا أقبل منه حتى يطلع المنبر بمحضر مِن الفقهاء ويعرض عليهم عقيدته، ويتبرأ مما سواه؛ فأجاب إلى ذلك ‏وحضره في يوم الجمعة الجامع سعد المنبر، وكان فصيحًا في خطبة، وذكر عقيدته التي الفقهاء متفقون عليها وتبرأ مما سواها، فحين فرغ من ذلك التفت الشيخ إلى الفقهاء وهم حوله، وقال: هل تنكرون من كلامه شيء؟ فقالوا: لا. وفي عقيب ذلك ألَّف كتابه الانتصار) (السلوك)، ‏وعلى هذا فلا بد أن تكون التبعية في المذهب أصوله وفروعه على ما أسسه الإمام الشافعي، ‏وما سار عليه الأصحاب والفقهاء من أئمة المذهب وأصحاب الوجوه؛ فكيف يوافقون الإمام في فروعه ويخالفونه ‏في أصوله، بل ينكرون ‏على مَن كان على طريقة الإمام في أصوله وفروعه، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.