الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 23 مارس 2021 - 10 شعبان 1442هـ

وألَّف بين قلوبهم

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).

قال ابن كثير -رحمه الله-: "مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مَوَدَّةً: وَهِيَ الْمَحَبَّةُ، وَرَحْمَةً: وَهِيَ الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّتِهِ لَهَا، أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا، بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ، أَوْ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ، أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)". 

ولكن قد يحصل أحيانًا نفور وخلاف بين بعض الأزواج؛ ولذلك أسباب ظاهرة، منها: عدم الاهتمام والرعاية من الجانبين ببعضهم البعض، وفقدان التودد والكلمة الطيبة، وإشاعة مشاعر المودة بين الزوجين، والتغافل عن بعض الزلات، وكذا اهتمام كل منهما بنظافته الشخصية، وهيئته الظاهرة، وأن تكون رائحته طيبة.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِامْرَأَتِي كَمَا تُحِبُّ امْرَأَتِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228)" (تفسير القرطبي).

ولنا في ذلك خير أسوة، في نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لأهلِهِ وأنا خَيْرُكُمْ لأهلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

"وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ جَمِيل العِشْرَة، دَائِمُ البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بِهِمْ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ. قَالَتْ: سَابَقَنِي رسولُ اللَّهِ --صلى الله عليه وسلم-  فَسَبَقْتُهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أحملَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَ مَا حملتُ اللحمَ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: هذِهِ بتلْك" (تفسير ابن كثير بتصرفٍ).

وأسباب أخرى غير مرئية، منها: الحسد والعين، وعلاج ذلك: الاستعانة بالله والتوكل عليه، والمحافظة على الأذكار والأوراد المشروعة، وأذكار الصباح والمساء، وأن يرقي نفسه أو زوجه إن احتاج إلى ذلك.

ومِن أعظم أسباب حدوث النفور والشقاق وأعظمها: الذنوب، قال الله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).

قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".

فالذنوب من أعظم أسباب نزول المصائب والنقم، وكذا الفرقة والنفور، ولا عجب فقد قال -صلى الله عليه وسلم- موضحًا سبب الذنوب في حدوث الجفاء والنفور بين الإخوان، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فِي اللهِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وعلاج ذلك: التوبة والإنابة إلى الله -تعالى-، وسرعة الاستجابة لأمر الله -تعالى-، وأن تمتلئ القلوب إجلالًا وتعظيمًا لله، فبذلك تحصل التقوى التى هي من أعظم أسباب تفريج الكربات، وتيسير الأمور، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق:2)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4).

ومِن أعظم الوسائل أيضًا التي قد يغفل عنها الكثير -أو لا يدرك قيمتها كما ينبغي-: الدعاء، ودوام الافتقار والتذلل لله -تعالى- القريب المجيب -سبحانه وبحمده-، فإن نواصي العباد وقلوب العباد جميعًا بيد الله، فالله هو الملك القدير -سبحانه وبحمده-؛ فلو أنفق العباد ما في الأرض جميعًا، لتأليف قلوب لم يأذن الله -تعالى- في تآلفها لما تألفت، كما قال -سبحانه وبحمده- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63).  

وذلك أثر من آثار عزته وقدرته، وحكمته -سبحانه وبحمده-.

وقال -تعالى- أيضًا: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:7).

(وَاللَّهُ قَدِيرٌ): على كل شيء؛ يقلِّب هذه القلوب كيفما يشاء، ويؤلِّف ويجمع بين المتخاصمين المتباعدين متي شاء؛ فهو العزيز الحكيم.

وانظر إلى أثر قدرة الله القدير على قلب ثمامة بن أثال -رضي الله عنه-، وهو يتحدث بعد إسلامه، فيقول -رضي الله عنه-: (واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ... ) (متفق عليه).

فحينما تمتلئ القلوب يقينًا أن الأمر بيد الله وحده، وأن الملك له وحده، وأن قلوب العباد بين أصبعيه يقلبها كيفما شاء، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع -سبحانه وبحمده-، كلما تيقنت بذلك ازدادت راحة وسكينة وطمأنينة، ولو طال الزمن فالأمل يظل دائمًا قائمًا؛ لأنه -سبحانه- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في والسماء، لكن قد يتأخر الفرج لحكمة من الله؛ امتحانًا وتمحيصًا للقلوب، وغيره؛ لذلك نحتاج دائمًا إلى الصبر في هذا الأمر، وفي غيره: (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ) (متفق عليه) كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وبه يدرك خير العيش -بإذن الله- كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "وجدنا خير عيشنا بالصبر".

ربنا هب لنا مِن أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.