الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 12 نوفمبر 2020 - 26 ربيع الأول 1442هـ

مظاهر القسوة في مجتمعاتنا (52) آيات من القرآن في ذم القسوة (30)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17).

لما كانت الأخلاق الحَسَنة الجميلة دليلًا على كمال الحياة، كان الرُّسُل الكِرَام -صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن- أعظم الناس خُلُقًا؛ لأنهم أعظم الخلق إيمانًا وأبعدهم عن القسوة، ثم كان المؤمنون بعدهم تتفاضل درجاتهم في الأخلاق على قَدْر درجات إيمانهم.

والدعاة إلى الله يلزمهم التزام أحسن الأخلاق؛ اقتداءً بالرسل الكرام -صلوات الله وسلامه عليهم- وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون ذلك أقرب إلى تحقيق إيمانهم، وأقرب إلى قبول دعوتهم؛ فمهما قويت الحجة وصح القول؛ فإنه لا يؤثِّر إلا مع حسن الخلق وكماله وصلاح العمل.

وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في استفتاح الصلاة: (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ،) (رواه مسلم)، وتكرار هذا الدعاء مِن أعظم أسباب التوفيق لحُسن الخلق.

وإليك أيها القارئ الكريم جملة من الأخلاق الحسنة الجميلة، وهي مفصلة في كتب التهذيب والرقاق والأدب؛ ولكن أحببت أن أجملها هنا؛ لنزن أنفسنا بها، وننظر إلى حالنا في التشبه بأنبياء الله ورسله والقرب منهم.

أولًا: الصدق في القول والعمل؛ مع الله ومع الناس، وترك الكذب بالكلية.

ثانيًا: الصبر واحتمال أذى الخلق، والحلم عنهم، وكظم الغيظ وكف الأذى، وعدم الانتقام للنفس؛ إلا أن تُنتهك حرمات الله؛ فينتقم المسلم لله -عز وجل-.

ثالثًا: الأناة وعدم الطيش والعجلة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ) (رواه مسلم).

رابعًا: العفة واجتناب القبائح والفواحش في القول والعمل، وفي الأموال والأعراض، والحياء من الله -عز وجل- ثم مِن الناس.

خامسًا: الكَرَم والجود والسخاء، وترك الشح؛ وهو السعي إلى أخذ ما في أيدي الناس، والبخل؛ وهو منع الحق الذي على الإنسان مما في يده، قال الله -عز وجل-: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

سادسًا: الغيبة والنميمة وخيانة الأعين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المعذبين في قبريهما: (أمّا أحَدُهُما فَكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ، وأَمّا الآخَرُ فَكانَ لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ) (متفق عليه)، قال الله -عز وجل-: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) (الحجرات:12)، وقال -سبحانه وتعالى-: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّهُ لا يَنبغي لِنبيٍّ أنْ تَكُونَ لهُ خائِنَةُ الأَعْيُنِ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

سابعًا: الشجاعة وعزة النفس والقوة في الحق، والبذل من النفس والمال والجاه في سبيل نصرته، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس، وكذا الاستعداد لبذل المحبوب وإخراجه ومفارقته لأمر الله بذلك، ولنا الأسوة في ذلك في إبراهيم -عليه السلام- إذ بذل نفسه حتى أُلقِي في النار، وبذل ولده حين استعد لذبحه؛ امتثالًا لأمر الله -عز وجل-.

ثامنًا: الوفاء بالعقود والعهود والأمانات للأهل والأرحام والأصدقاء؛ وذلك أن كل الحقوق أمانة لدى الإنسان؛ فكل معاملاته مع مَن حوله وكل ما أمر الله -عز وجل- به فهي من عهد الله -عز وجل-، ومن الأمانات التي أمر أن تؤدى إلى أهلها، قال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، وقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى? أَهْلِهَا) (النساء:58).

تاسعًا: البر والصلة والإحسان إلى الخلق، فالبر للوالدين وصلة للأرحام والإحسان إلى جميع المعاملين، بل ويشمل ذلك الإحسان في معاملة الحيوانات، كما قال الله -عز وجل-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23)، وقال ربنا -سبحانه وتعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23)، والإحسان قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) (رواه مسلم).

عاشرًا: العدل والتوسط في شيم النفس بين الإفراط والتفريط؛ فكل الأخلاق الحَسَنة وسط بين طرفين؛ كل منهما مذوم، والخير في التوسط بينهما؛ فالجود وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والحياء وسط بين الوقاحة والجرأة المذمومة، وبين العجز والمهانة والخور والضعف، والحلم وسط بين الغضب والمهانة، والذل والمسكنة وسقوط النفس.

والتواضع والعزة المحمودة وسط بين الكبر والهوان، والقناعة وسط بين الحرص والتكالب والتنافس على الدنيا، وبين الخسة والمهانة، والتضييع وترك التنافس على المراتب السامية من طاعة الله ومرضاته، والصبر وسط بين الجزع والهلع والتسخط، وبين القسوة والغلظة وتحجر الطبع والفظاظة.

والرحمة وسط بين القسوة والضعف والجبن، وترك أوامر الله التي أمر فيها بأن لا تأخذ العباد فيها رأفة في دين الله، وطلاقة الوجه والتبسُّم والبِشْر في وجوه البَشَر وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد تكبرًا وعُجْبًا، وطي البِشْر عن البَشَر وبين الاسترسال في الضحك في كل موقف، ومع كل أحد حتى تزول الهيبة والوقار.

ومن الصفات الجميلة التي حاز الرسل الكرام قَصَب السَّبْق فيها: الإيثار بالدنيا، ومقابلة الإساءة بالإحسان، قال الله -سبحانه وتعالى- في الإيثار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9)، وقال في مقابلة الإساءة بالإحسان: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (المؤمنون:96)، وكذلك أيضًا سرعة العفو والصفح وقبول المعذرة، قال -سبحانه وتعالى- عن يوسف -عليه السلام-: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:92)، بعد كل ما فعلوه.

والمروءة في اللسان: حلاوة المنطق وطيبه ولينه، والمروءة في الخُلُق: بسعته وانشراح الصدر في معاملة الخَلق، وفي المال: ببذله في مواقعه المحمودة شرعًا، وفي الجاه: ببذله للمحتاج إليه، وهذه المروءة من أهم الخصال التي تسبب نجاح الدعوة.

ومن هذه الصفات الحسنة: القُرب من الخَلْق حيث يجدونه في أزماتهم ومشاكلهم؛ يحمل الكَلَّ ويكسِب المعلدوم، ويَقْري الضَّيْف، ويعين على نوائب الحق، وبهذا عَلِمتْ خديجة -رضي الله عنها- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يخزيه الله أبدًا؛ بل ذلك مِن أدلة نبوته.

 وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يحسن إلى الخادم والمملوك؛ فضلًا عن الأهل والأقارب والجيران، ويجالس المساكين ويجيب الدعوة؛ ولو إلى إهَالَةٍ سَنِخَة، ويمشي مع الأرملة والمسكين واليتيم في حوائجهم.

ومن علامات القرب من الناس أن يبدأ مَن لقيه بالسلام، وأن يكون خفيف المؤنة على مَن صحبه؛ لا يكلف غيره مؤنته؛ بل يحمل مؤنته ومؤنة غيره، ويحمل هَمَّ المسلمين، ويكون حكيمًا لينًا، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويعطي مَن حرمه، ويصل مَن قطعه، ويعفو عمَن ظلمه، لا يتكبر ولا يحسد ولا يتعالى على الخلق، ولا يبغي ولا يفخر، ولا يغش ولا يتبع الشهوات، ولا يخاصم لنفسه ولا يعاتب لها، ولا يماري ولا يجادل إلا بالتي هي أحسن، ولا يستقصي حقه، ويغضي عن عيوب مَن أساء إليه؛ فضلًا عمَن سواه إلا بحق الله -تعالى-، ويتغافل عن عثرات الأهل والأصحاب والناس؛ مع إشعارهم أنه لا يعلم لهم عثرة.

ومِن هذه الأخلاق الحسنة: توقير الكبير ورحمة الصغير، وأن يأتي إلى الناس بأفضل مما يحب أن يأتوا إليه، ويحسن عِشرة كل مَن عاشره مِن أم وأب، وبنت وابن، وأخت وأخ، وقريب وجار، وامرأة وصاحب ومملوك وكل مَن يعامله، والله المستعان وعليه التكلان.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنها سيئها إلا أنت، اللهم ارزقنا رفقة الأنبياء، وعيش السعداء، وموت الشهداء.

وصلى الله على نبينا محمد وسائر النبيين والمرسلين، وسلم وبارك عليهم وعلى أهلهم وصحبهم ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.