الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 19 أبريل 2020 - 26 شعبان 1441هـ

عبادة الوقت

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن عبادة الله -تعالى- هي وظيفة العمر التي خَلق الله الخلق مِن أجلها، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فلا يتصور أن يحيا واحد من الخلق بلا عبادة يتعبد بها لله في ليله أو نهاره، في بيته أو عمله أو مسجده، في حال صحته أو مرضه، في عسره أو يسره، فكل من في السماوات والأرض موصوف بوصف العبودية لله -عز وجل- في كل أحواله، وفي كل مكان يتواجد فيه.

ومَن تأمل توجيه الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:7-8)، يعلم أن العبادة تورّث سكونًا وهدوءً، وثباتًا واستقرارًا نفسيًّا، يُحرم منه المضطربون المتهوكون الذين يظنـون أن مقاليد الأمور بيد غير الله.

وفي الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ) (رواه البخاري)، فالفراغُ ينبغي أن يستثمر في الخير، والناس فيه إما موفق فيستعمل فراغه فيمَا ينفعه في دينه ودنياه، وإما مخذول، يعمر وقته وفراغه في الحرام وأنواع السيئات، وبين ذلك مَن يضيع وقته سدى فيما لا يضر ولا ينفع.

جاء في الأثر عن عمر -رضي الله عنه-: "إني لأكره أن أرى الرجل سبهللًا، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة"، والسبهلل معناه في اللغة: "الفارغ" كما في "لسان العرب".

قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن لكل وقت عبادته، وإن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته".

وإنما تتأكد عبادة الله -تعالى- ويعظم أجرها في أزمنة الغفلة، وأوقات الفتنة، حين يشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم؛ لقلة مَن يقتدون بهم فيها؛ ولذا كان للعبادة في أزمنة الفتن أجر عظيم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم).

- فعلى كل مسلم ومسلمة -ولا سيما مع هذه النوازل- اغتنام هذه الأوقات، وعدم تضيعها في القيل والقال، وكثرة الكلام فيما لا يعود عليهم بنفع مِن تتبع تفصيلات الواقع ومفردات التحليلات، فالقليل من معرفة مثل هذه الأمور يغني.

- علينا الحذر من ترويج الشائعات والأخبار والتحليلات المغرقة في التشاؤم؛ فكم مِن شائعة أو معلومة ناقصة، أو ظن أو خبر يروج ويتم تداوله؛ يترتب عليه قدر من البلبلة والحيرة، والخوف المفرط! (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء:83).

ــ علينا أن ننشغل في هذه الأوقات بالتفكر في مثل هذه الآيات التي تدل على كمال قوة الله وضعفنا، وكمـال قدرة الله وعجزنا، وكمال غنى الله وفقـرنا، وكيف أن الله سبحانه هو الفعال لما يريد، بيده وحده كشف الضر، ورفع الكـرب.

ــ علينا أن نتفكر لماذا حرمنا من الخيرات: (دروس العلم ـ الصلاة في المساجد ـ أداء العمرة ـ ...)، ولعلنا حرمنا بذنوبنا وتقصيرنا؛ فنستغل هذه الأوقات في الإلحاح في الدعاء والاستغفار والتوبة، والإنابة والتذلل؛ فإنه مما يستدفع به البلاء والكوارث والنّكبات، وتستنزل به الرحمات، وتُستجلب المنح والعطايا والهبات، قال -تعالى-: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (التوبة:126)، وقال -سبحانه-: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون:76).

- علينا اغتنام هذه الأوقات في عبادات نزكي بها أنفسنا مِن: صلاة، وصيام، وقراءة قرآن، ومحـافظة على ذكر الله -سبحانه- من تسبيح وتهليل وتحميد، وصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومدارسة علم، ومواساة محتاج، فالمفلح مَن زكى الله نفسه بهدايته إلى الطريق المستقيم.

ــ علينا اغتنام هذه الأوقات في العمل على تعميق معاني أركان الإيمان في قلوبنا، ولا سيما قضية الإيمان بالقضاء والقدر، وكيف نجمع بينها وبين مسألة الأخذ بالأسباب.

نؤمن بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يمنعنا من الأخذ بالأسباب الشرعية، ونأخذ بالأسباب المشروعة ولا نعتقد أنها تنفع بنفسها، فالأخذ بالأسباب من الشرع، والإيمان بالقدر من التوحيد، وكلاهما من الدين. 

- علينا اغتنام هذه الأوقات في العمل على زيادة أعمال القلوب في قلوبنا: من الخوف من الله، والرجاء والثقة فيه، وحسن التوكل عليه، والإخلاص والتجرد له، ومحبته، ومحبة أوليائه، والصبر على مقاديره، والرضا، واليقين، وسلامة القلوب للمسلمين، والنصح لهم، وعدم الحقد، ولا الحسد، ولا البغضاء، فقد مدح الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وصحابته بأنهم (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

- علينا اغتنام هذه الأوقات بمراجعة صادقة في محاسبة للنفس وعدم إحسان الظن بها، فإنها محل الجناية، فمَن لم يتهم نفسه على طول الأوقات فهو مغرور، والله يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (النجم:32).

قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "وعلامة المخلص إذا عوتب في نفسه، وفي عمله أن لا يبرئ نفسه، ولا يكون معجبًا، بل يعترف، ويتهم نفسه ويستغفر الله".