الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 25 مارس 2020 - 1 شعبان 1441هـ

الفراغ مضيعة

كتبه/ محمد خلف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فالوقت نعمة عظيمة في حياة المرء، وله أهمية قصوى؛ يكفي أن الله -تعالى- أقسم به فقال: (وَالْعَصْرِ) (العصر:1)، وهو الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير أو شر.

وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن أهميته وبركته، فقال: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).

وبالرغم من فضل الوقت وأهميته؛ إلا أن الكثير من الناس لا يدرك قدر هذه النعمة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (رواه البخاري).

فالمغبون: أي الخاسر فيما يبيعه ويشتريه، والمقصود: أنه يخسر وقته بتفريطه فيه، وعدم استغلاله بما ينفعه في معاشه ومعاده.

وللأسف الشديد: في الغالب أن هذا التفريط وسوء الاستغلال يجر الإنسان إلى المباحات ثم يستدرجه الشيطان للوقوع في المحرمات؛ هذا إن لم يوقعه مباشرة في المحرمات بشتى أنواعها مِن: إطلاق البصر، وسماع المعازف، والعشق المحرم، وغير ذلك؛ فينبغي أن يتعلم المرء دائمًا أن يحافظ على أنفاسه، وأن يبخل بها أن تضيع فيما لا ينفعه، قال الحسن -رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه".

وكيف لا وبهذا الأنفاس تشترى المنازل العالية في الدنيا والآخرة، وبإضاعتها يحصل الوبال والخسران في الدنيا والآخرة؟!

ويجره أيضًا هذا الفراغ إلى الكثير مِن الأمراض النفسية: كالاكتئاب وغيرها، وعلى العكس من ذلك؛ فإن العمل واستغلال الوقت من أسباب العلاج من هذه الأمراض، بل أحيانًا يوصي الطبيب النفسي مريضه بالعمل واستغلال الوقت، وألا يكون فارغًا؛ حتى لا يكون فريسة سهلة للمرض، وللوساوس والأفكار الردية، وأذكر هنا قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا، لا في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة!".

وورد عن أحد السلف أنه قال: "قد صاحبتُ قومًا فتعلَّمت منهم أمريْن: نفسك إن لم تشغلْها بالحق شغلتْك بالباطل، والوقت كالسَّيف إن لم تقطعْه قطعك".

فعلى المرء أن يملأ فراغه دائمًا بما ينفعه في دنياه وأخراه؛ يملأه بالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان للجيران، ومساعدة الضعيف، وتعلم العلم وتعليمه، وكذا يملأه بالعمل والسعي على المعاش، وبتعلم العلوم الدنيوية التي تنفع صاحبها والمسلمين، ولكن بالتوازن الذي لا يضر بآخرته وطاعة ربه -سبحانه وبحمده-.

وكذلك لا يمنع ذلك أيضًا مِن وقت للمرح والتنزه المباح مع الزوجة والأبناء والأحباب، وممارسة الرياضة، وغير ذلك؛ فإن هذه القلوب تحتاج إلى بعض الترويح حتى لا تمل، وحتى تعود أفضل مما كانت -بإذن الله-، وهذه المباحات أيضًا يؤجر عليها المرء إذا نوى فيها نية حسنة من الإحسان إلى الأهل والأبناء، والتزاور والتحاب في الله بين المسلمين بعضهم البعض، وغير ذلك من النوايا الطيبة.

فينبغي عليك أن تنظِّم وقتك، وتضع لنفسك أهدافًا: كحفظ القرآن الكريم -مثلًا-، أو قراءة كتاب تفسير، أو سيرة، أو فقه، أو دراسات عليا في تخصصك الدنيوية أو دبلومة ولو مصغرة، وغير ذلك، وتقسِّم هذه الأهداف على أهدافٍ ومهام أصغر بقدر طاقتك، ويجب أن تجعل لك أولويات؛ فابدأ بالواجب الأهم ثم ما هو دونه في الأهمية من مستحب أو مباح، واجعل دائمًا من ذكر الله وقراءة القرآن وردًا ونصيبًا ثابتًا لا تتركه وحافظ عليه بقدر استطاعتك، مع الصلوات الخمس في جماعة في وقتها بالمسجد للرجال؛ فبهذا يستقيم ويعتدل يومك، واجتهد ألا تكون فارغًا إذا انتهيت من عبادة أو من أمر دنيوي كعمل أو دراسة، ونحوها، واشتغل دومًا بما يقربك من ربك -عز وجل-، وهذا هو معنى قوله -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (الشرح:7).

وكن دائما مجاهدًا لنفسك، وإياك أن تستسلم لها، ولا شك أنك ستبتلى وستسقط أحيانًا في حبال الشيطان، ولكن عليك أن تأخذ من هذا السقوط دفعة للصعود والتقدم للأمام؛ لنفع نفسك والمسلمين.

وابنِ لنفسك المنازل العالية عند الله، وما تحصل به رضوانه، وبادر دائمًا بالتوبة إلى الله من الذنوب، فإنها ممحقة للبركات وسبب لخذلان العبد وحرمانه، وإياك واليأس؛ فالله يحب التوابين ويفرح بتوبتهم مع غناه عنهم، واحرص على مصاحبة الصالحين العارفين بأهمية وقتهم، وإياك وصحبة أهل اللهو واللعب والغفلة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).

واجتهد أن تكون محسنًا تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واجعل دائمًا ذكر الموت والدار الآخرة نصب عينيك، واحذر حسرة المقصرين في هذا اليوم -يوم القيامة- في يوم التغابن، فمن أسباب تسميته بذلك؛ أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان.

فأكثر أيها الكريم من دعاء ربك، وطلب العون منه على مرضاته، والثبات على الطاعة، والله تعالى قريب مجيب، وأبشر؛ فالله -تعالى- يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:??).

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.