الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 14 يناير 2020 - 19 جمادى الأولى 1441هـ

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ)

كتبه/ نصر رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): أعظم منازل السالكين من أهل التوحيد، فهي حق الله على العبيد، وهي أول ما دعا إليه الرسل، وبه كل كتاب نزل، وهي أصل الأصول، والطريق للوصول، ولأجلها أعدت الجنة والنار، وقوتل الكفار، ولها في الأرض دعت الأنبياء، وسار على طريقهم ورثتهم من العلماء، فهي أول مطلوب، وأعظم محبوب، وهي أشرف المقاصد، وأعذب الموارد، وأجل الأعمال، وأحسن الأقوال، وهي أول الأبواب، وبداية الكتاب، وأعظم القضايا، وأهم الوصايا، فهي قرة عيون الموحدين، وبهجة صدور العابدين، وهي غاية الآمال، وأنبل الخصال، وأرفع الدرجات، وأكبر الحسنات، وأعظم الكفارات، وهي منشور الولاية، وتاج الرعاية، والبداية والنهاية.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية؛ ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهّم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق، بل أضلّهم".

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذرايات:56)، فهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله -تعالى- المكلفين لأجله.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): افتتح كل رسول من الرسل دعوته بالدعاء إليها، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).  

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): منزلة لشرفها وصف الله بها رسله وأنبيائه، ونعت بها ملائكته وأوليائه، فقال -تعالى-: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) (الأنبياء:19)، وقال -تعالى-: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص:45)، وقال عن نوح: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) (الإسراء:3)، وقال عن داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:17)، وقال عن سليمان: (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص:30)، وقال عن أيوب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ) (ص: 41)، وقال في عن يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24).

وقال في وصف عيسى -عليه السلام-: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) (الزخرف:59)، وقال: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) (النساء:172).

ووصف بها نبيه -صلى الله عليه وسلم- في أشرف مقاماته، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان:1)، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، قال القرطبي -رحمه الله-: "قال العلماء: لو كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية".

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): سبيل الحرية والفكاك من رق الدنيا الفانية، وطريقُ الخلاص من هلاك الآخرة الباقية، فمن أخلص عبوديته لله -تعالى-؛ تحرر من عبودية الخلق، فهذا هو الحر حقيقة.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلّما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك".

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ): ملأت قلوب السالكين من معرفة إلههم ومعبودهم، وغمرتها بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، شغلهم حبه عن حب من سواه، وذكره عن ذكر من سواه، وخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه متذكرًا صفاته العلى وأسمائه الحسنى... فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعًا ذليلًا منكسرًا من كل جهة من جهاته... قيل لبعض العارفين: "أيسجد القلب بين يدي ربه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة!".