الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 29 ديسمبر 2019 - 3 جمادى الأولى 1441هـ

الفساد (39) الإعلام من البناء إلى الهدم (3-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان انتشار القنوات الفضائية بعد ظهور القنوات التليفزيونية وراء ازدهار سوق الدراما المصرية خاصة في شهر رمضان، وقد احتكرت هذه الدراما المصرية الأسواق العربية؛ نظرًا لعدم مناسبة الدراما التركية والهندية للعرض في شهر رمضان من جهة، إلى جانب التراجع الكبير في الإنتاج الدرامي السوري نظرًا لما تتعرض له سوريا من أحداث في السنوات الأخيرة، حيث كان الإنتاج السوري في فترة من الفترات منافسًا قويًّا للإنتاج المصري، خاصة في المسلسلات التاريخية.

ورغم هذا الازدهار والاحتكار فقد شهد الإنتاج الدرامي المصري تراجعًا كبيرًا من خلال تأثيره السلبي على المجتمع.

يعلِّق على ذلك الشاعر الأديب فاروق جويدة في مقال له في جريدة الأهرام الأسبوعي يوم الجمعة 24 يونيو 2016م بعنوان: (دراما سيئة... وفن هابط... ومال سايب!) قائلًا: (لا شك أن الدراما التليفزيونية أصبحت الآن في صدارة الإنتاج الفني المصري؛ خاصة أنها جمعت عددًا مِن كبار المنتجين العرب، والفضائيات العربية الذين دفعوا أرقامًا غير مسبوقة للنجوم المصريين، ورغم كل الإيجابيات؛ إلا أن التراجع في مستوى الإنتاج من حيث القيمة الفنية كان واضحًا في السنوات الأخيرة، حتى وصل هذا العام إلى منطقة خطيرة تهدد مستقبل هذا الإنتاج أمام السطحية، وغياب الفكر والمعالجات الحقيقية للواقع المصري والعربي.

ويمكن أن يُقال: إن الجري وراء المال كان سببًا كافيًا لإفساد الكثير من الأعمال الفنية التي وصلت إلى درجة من السوء لا يمكن السكوت عليها، كما أن ضخامة الإنتاج كانت على حساب القيمة ومستوى الجودة).

ويقول في موضع آخر من المقالة: (ومع التوسع في الإنتاج تدفقت رؤوس أموال عربية ضخمة، حتى إن تكاليف إنتاج المسلسلات هذا العام تجاوزت 2 مليار و200 مليون جنيه في أقل التقديرات، وهنا ارتفعت أسعار النجوم، وبدأت منافسة ضارية بين الفضائيات إنتاجًا وتسويقًا وعرضًا).

ويستطرد الكاتب قائلًا: (غابت القيمة واختفت الرسالة وسقط الهدف، وقبل هذا كله افتقدنا الضمير. إن الفن بلا رسالة تجارة خاسرة، والمال بلا مسئولية مال ضائع، وقبل هذا كله؛ فإن الضمير حين يغيب تتوارى كل الأشياء الجميلة وتسقط القيم، وهي أغلى ما يملك الإنسان عبر تاريخه. هناك وسائل كثيرة يمكن أن نجمع منها المال، وهناك طرق كثيرة يمكن أن تجمع ملايين المشاهدين على الشاشات، ولكن حين يصبح الفن مجرد وسيلة لجمع المال؛ فإنه يخسر الغاية والهدف).

ويختتم مقاله بقوله: (لا شك أن أموالًا كثيرة أنفقتها شركات الإنتاج على المسلسلات والإعلانات والنجوم، ولكنه مال ضائع؛ لأنها لم تترك شيئًا في عقول المشاهدين غير المزيد من الفوضى والصخب والضجيج)، (ويبقى عندي سؤال أخير: هل هذه هي مصر التي شاهدناها على الشاشات في شهر رمضان... مصر القتل والدم والفوضى، والدعارة والمخدرات والإدمان، والعلاقات المشبوهة؟!) (المقال السابق بتصرفٍ يسيرٍ).

(نحن نعيش الآن صورة جديدة من صور الزواج الباطل؛ ليس بين السلطة ورأس المال، ولكن بين رأس المال والإعلام، وربما يكون هذا الزواج هو الأخطر والأسوأ؛ لأنه يضع الإعلام في مواجهة مع الشعب. إن المفروض أن يقف الإعلام مع قضايا الشعب ضد السلطة، وضد رأس المال، وضد كل مَن يحاول أن يعتدي على حقوق هذا الشعب)، (وحين يصبح شريكًا أو بوقًا لرأس المال؛ فهو يتخلى عن دوره ومسئولياته). (في البداية كانت نشأة فضائيات قليلة كان لها دور بارز في تنشيط الإعلام المصري، وقد حاولت هذه الفضائيات أن تلتزم بقضايا المجتمع والتحولات الكبرى فيه، بجانب حرصها على جوانب مهنية وأخلاقية التزم بها الإعلام المصري). و(حين تشابكت العلاقات وامتدت بين السلطة ورأس المال، توسع رأس المال في الدخول إلى الأنشطة الإعلامية، فكان إصدار الصحف الخاصة وفتح آفاق جديدة للفضائيات على أساس أنها تحمل فكر رجال الأعمال وتحمي أنشطتهم وأعمالهم، بل إن البعض اعتبرها في فترة من الفترات وسيلة ضغط على سلطة القرار إذا تطلبت الأمور ذلك. حين قامت ثورة يناير وظهرت مؤشرات وبوادر أن العهد البائد في طريقه للرحيل تخلت حشود الإعلام الخاص عن النظام، ولم تكن حريصة على حمايته أو الدفاع عنه، فقد بدا أمامها أن فرصه في البقاء والاستمرار تبدو مستحيلة). (مِن مقال للكاتب بعنوان: (زواج جديد باطل بين الإعلام ورأس المال) الأهرام الأسبوعي الجمعة 8 يوليو 2016م بتصرفٍ).  

كانت الفضائيات الخاصة المصرية في فترة من الفترات بعد ثورة يناير (صاحبة دور كبير في يقظة الشارع المصري، بل والشارع العربي، ومهَّدت لأحداثٍ سياسية كبرى في الوطن العربي كله، وإن كان البعض يرى فيها جوانب سلبية؛ إلا أن هناك إيجابيات لا ينكرها أحد، وهي زيادة الوعي لدى المواطنين. إن الشيء المؤكد أن هذه الفضائيات تعاني الآن ظروفًا مالية صعبة، وأنها تنتقل الآن بين أكثر مِن وريث أو مالك، وقبل هذا تعاني كثيرًا من السطحية وغياب الهدف والرسالة، أمام حالة من التخبط لم تشهدها من قبل، إن ذلك يتطلب أن يقوم أصحاب هذه الفضائيات بمراجعة مواقفها ماديًّا وأدبيًّا وسياسيًّا، خاصة أنها دخلت في حالة من الإفلاس تهدد مستقبلها سواء بيعت أو بقيت مع ملاكها الأصليين).  

إن (من أكثر الشواهد على سوء أحوال الفضائيات المصرية الخاصة هذا الكم من التجاوزات التي كانت وراء إلغاء البرامج أو تحويل المسئولين عنها من المذيعين وفِرَق الإعداد إلى التحقيق في ظل أخطاء فادحة في الأسلوب واللغة، وامتهان كل القيم المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي. تحتاج الفضائيات المصرية الآن إلى التجديد في دمائها في الأشخاص والأفكار والبرامج، وأن تعيد هيكلة ميزانياتها حسب ظروفها الاقتصادية وما تفرضه عليها من أعباء، وأن تبحث عن صيغة للتعاون والمشاركة مع بعضها البعض، ومع المؤسسات الإعلامية الرسمية بكل مجالاتها، لأن الزمن يجري ويتغير، وعليها أن تعيش روح العصر)، (هناك حالة من الكساد المالي أصابت معظم الفضائيات المصرية الخاصة، والسبب في ذلك: أنها دخلت في سباق في الإنفاق المالي تجاوز كل الحدود حتى أفلس بعضها أمام مطالب مالية ضخمة، بينما هناك قنوات جديدة أسرفت كثيرًا في نفقاتها، وأصبحت الآن مهددة بالإفلاس أمام ظروف مالية صعبة. إن المطلوب مراجعات مالية لهذه الفضائيات تعيد لها التوازن سواء بقيت ملكًا لأصحابها الأصليين أو انتقلت إلى ملاك جدد، ويبقى الوضع المالي الخطير لهذه الفضائيات أهم جوانب الأزمة).

(هناك حالة من الغموض تحيط بصفقات بيع عددٍ مِن الفضائيات، ولماذا لا تكون الأشياء واضحة، خاصة أن هناك حالة من الارتباك في هذه الصفقات بين مَن يقول: إنها تمت، ومَن ينكر ذلك، وكان ينبغي أن يتسم كل شيء بالوضوح والشفافية حول البيع والشراء، حتى لو كانت هناك أطراف رسمية في هذه الصفقات، لقد ترك ذلك أثرًا سيئًا على هذه الفضائيات، فلا هي بقيت على حالها وأصلحتْ مِن أمرها، ولا هي تغيرت ولا تطورت لتجاري أوضاعها الجديدة. ما زال الغموض وعدم الشفافية يمثِّل أخطر ما تتعرض له الفضائيات المصرية) (من مقالة: "الفضائيات الخاصة... والمستقبل الغامض"، فاروق جويدة - الأهرام الأسبوعي الجمعة 16 فبراير 2018 م).

زعامات وهمية:

يقول الكاتب فاروق جويدة في مقاله: (إعلام الدولة أم دولة الإعلان؟) في الأهرام الأسبوعي الجمعة 30 يناير2105 م: (ما علاقة أصدقائنا في دولة الإعلام بالقضايا الدينية، لقد دخلوا الساحة تحت شعار تجديد الخطاب الديني، وهي قضية مطروحة وتحتاج إلى مواجهة فكرية مستنيرة لإخراج الناس خاصة الشباب من هذا المرض الرهيب الذي أصاب عقولنا، وهو التطرف الديني. هنا المشكلة واضحة، أمراض فكرية يعاني منها الإنسان العربي، وهي لا تدخل في نطاق الاجتهاد الإعلامي، بل هي قضية علماء الدين وخبراء علم النفس والاجتماع، ما هو نصيب الإعلام من هذه القضية حتى ينصب نفسه فقيهًا وعالمًا وخبيرًا في كل شيء؟! لقد وصل الأمر إلى التشكيك في أحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-، بل والاقتراب بجهل من تفسير القرآن الكريم!)، (الأغرب من ذلك: أن التجرؤ على الخوض في هذه القضايا شهد تجاوزات في اللغة والحوار، والاجتهاد أيضًا، بحيث أساء لرموزٍ دينيةٍ في التراث لا ينبغي أبدًا تشويه صورتها. ماذا يعني الهجوم على الإمام البخاري في أكثر من مكان؟! إن الهدف ليس البخاري الذي جمع أحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام)، (إن الواضح من هذا الهجوم أنه سابق أو لاحق سوف يصل إلى السيرة النبوية وأحاديث الرسول، وهي مِن أهم مصادر العقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، بل إن البعض من الإعلاميين بدأ يتجرأ على القرآن الكريم، ويشكك في تفسير الآيات، وهو لا يستطيع إعراب جملة واحدة! في تقديري: أن هذا ليس عمل الإعلاميين، وإذا كان أحدهم يريد الخوض في هذه الجوانب؛ فعليه أن يتسلح بالثقافة والدراسة التي تؤهله لذلك؛ لأنني أخشى أن تكون هناك أياد خفية تحرِّك هذا النشاط الإعلامي المشبوه، بحيث تصل إلى القرآن الكريم وسنة نبينا -عليه الصلاة والسلام-. إن الخطاب الديني يعيش محنة قاسية، ولكن الإعلام والإعلاميين غير مؤهلين للدخول في هذه المناطق وعليهم أن يكفوا عن هذا العبث، وإذا لم يتراجعوا فعلى الدولة أن تمنع هذه التجاوزات. إذا كان الإعلامي لا يستطيع أن يهاجم وزيرًا خوفًا من العقاب؛ فكيف يتجنى على فقهاء بحجم البخاري وابن كثير والأئمة العظام، وهو لم يقرأ ما كتبوا، ولا يفهم ما قالوا؟!).

ويضيف في موضع آخر: (هذه الزعامات التليفزيونية التي قسَّمت الشارع المصري، وأساءت للعلاقات بين أبناء الوطن الواحد، لم تشهد مصر في تاريخها الحديث حالة الانقسام التي نعيشها الآن، وكان الإعلام هو المسئول عنها، ما بين ثوار يناير، وفلول الإخوان، وفلول الوطني، ونصب الإعلام شَرَكًا للدفاع عن هذا والهجوم على ذلك، وتحول المذيعون إلى منصاتٍ لإطلاق الصواريخ كل ليلة، ولم تكتفِ هذه الزعامات بالإساءة للعلاقات بين المصريين، ولكنها انتقلت إلى علاقات مصر بالدول الشقيقة، وأصبح من حق أي مذيع أو مقدم برامج أن يفتي ويقيم ويتحدث باسم الدولة وباسم الشعب في ظل غياب كامل للإحساس بالمسئولية.

إن منصات إطلاق الصواريخ الليلية على الفضائيات جريمة في حق الشعب المصري الذي تعبث به في كل ليلة قوافل الإعلام في كل اتجاه؛ كيف ظهرت هذه الزعامات التلفزيونية، ومَن أعطاها كل هذه المساحات على الفضائيات لتعبث كيفما شاءت بعقول الشعب؟! إن الأخطر من ذلك كله هو: عمليات التحريض التي تمارسها الفضائيات ضد أبناء الشعب الواحد، وكأننا نعيش حربًا أهلية. لقد أسهم الإعلام المصري خاصة الفضائيات بدورٍ كبيرٍ في تقسيم الشارع المصري طوال السنوات الأربع الماضية، وأصبح من السهل أن نشاهد على كل قناة فريقًا يمثِّل تيارًا بعينه ما بين الوطني المنحل والإخوان، وبقايا النخبة والعهد البائد.

إن الإعلام المصري الآن يمثِّل واحدة من أخطر الأزمات التي تواجهها مصر، خاصة مع حالة الانفلات التي تعيشها سياسيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا، وأصبحت الحكومة بكل مؤسساتها عاجزة عن مواجهة هذا الأخطبوط الذي يهدد أمن مصر واستقرارها) (المقال السابق بتصرفٍ واختصارٍ).

الإعلان ووسائل الإعلام:

(ما بين الإعلام والإعلان علاقة وطيدة؛ لأن كليهما لا يستغني عن الآخر رغم التعارض الشديد في الدور والرسالة والمسئولية، ولكن التداخل في طبيعة العمل الإعلامي والإعلاني وصل بهما إلى منطقة واحدة من حيث الأهمية والتأثير، رغم خطورة هذا التداخل الذي أفسد دور الإعلام وشوه طبيعة الرسالة الإعلامية).

وقد ثار الجدل (حول الصورة السيئة التي ظهر بها الإعلان المصري، وكيف تحول إلى وحش كاسر اجتاح في طريقه الكثير من الثوابت والتقاليد، بل والأخلاقيات التي ينبغي أن تحكم هذه النوعية من الأنشطة).

هناك فواصل وحدود تحدد دور الإعلام ومسئولية الإعلان:

أ- فالإعلام نشاط ثقافي وفكري هدفه الحقيقة، وهي مسئولية أخلاقية. والإعلان نشاط تجاري هدفه الإعلان والترويج.

ب- الإعلام يلتزم بالوقائع، والإعلان لا يرفض المبالغة للوصول إلى الهدف.

ومنذ اختلطت الأدوار؛ أصبح الإعلام دعاية، (لقد تحول الإعلان إلى وسيلة إعلامية لتضخيم الأدوار وتزييف الحقائق، وتسربت الصفحات الإعلانية لتأخذ الدور الإعلامي، ولجأ المسئولون في مؤسسات الدولة إلى شراء الصفحات الإعلانية تحت شعار إعلامي؛ فزيفوا الحقائق وقدَّموا للناس أوهامًا وأحلامًا أبعد ما تكون عن الحقيقة، من خلال الإعلانات الكاذبة عن مشروعات وإنتاج وأرقام أبعد ما تكون عن الحقائق، وأصبح مندوب الإعلانات في الصحيفة أهم وأخطر من أكبر كاتبٍ فيها). (وخسرت الصحافة في ظل هذا الخلط الكثير من مصداقيتها، وخسر الإعلان شفافيته ومسئولياته). و(في ظل الإعلانات الكاذبة تحولت الصحافة أحيانًا إلى أبواق لصاحب القرار، وأمام إغراءات مالية مذهلة أصبح سوق الإعلانات أهم كثيرًا من كل ما يكتب أصحاب الفكر. خضعت الصحف لسطوة الإعلان تحت دعاوى تغطية النفقات، وتمويل النشاط الإعلامي، ومع هذا خضعت أيضًا لسطوة المسئولين الذين يدفعون الملايين في حملات إعلانية لتجميل القبح وتشويه الحقائق)، (جاء هذا على حساب المادة الإعلامية ممثلة في الخبر والرأي والتحليل والتعليق والخدمات الصحفية المختلفة، وقبل هذا كله على حساب المصداقية، وهي أهم عناصر النشاط الإعلامي) (راجع في ذلك مقالة: "الإعلانات ومأساة الإعلام المصري" للكاتب فاروق جويدة - الأهرام الأسبوعي الجمعة 15 أغسطس 2014م بتصرفٍ).

(كانت المهزلة الأكبر ما فعله الإعلان بالفضائيات والقنوات التلفزيونية؛ فقد بدأ سيطرته بالتدريج حتى أصبح مهيمنًا على كل أنشطة الفضائيات ابتداءً بالبرامج وانتهاءً بالمسلسلات، مرورًا على أسعار المذيعين في سوق الإعلام، إن سعر المسلسل الآن يتحدد على ضوء الإعلانات التي يمكن الحصول عليها، وبدا النجوم الكبار يسوقون المسلسل بإعلاناته وليس بما فيه من مقومات فنية أو درامية أو قيم أخلاقية. وقد ترك ذلك آثارًا سيئة على المستوى الفني للأعمال)، (ولعل ذلك كان سببًا في ظهور أعمال فنية هابطة من حيث القيمة، وقد كان ذلك سببًا في دخول أسماء كثيرة لمجالات الإنتاج الفني وهي غير مؤهلة لهذه الأنشطة فكرًا وذوقًا ورسالة، ونجح الإعلان في ترويج الفن الهابط وتشجيع الإنتاج، وقبل هذا كله؛ نصب المال سلطانًا على كل أسواق الفن ابتداءً بالسينما وانتهاءً بالمسلسلات. لم يكتفِ الإعلان بهذا الدور السيئ، ولكنه تسلل إلى البرامج، وأصبح أداء المذيع بحجم ما يجمع في برنامجه من الإعلانات دون تحديد قيمة البرنامج أو ما يقدمه للناس، وحين تحولت المسلسلات إلى صفقاتٍ تجاريةٍ، وأصبحت الأفلام مشروعًا تجاريًّا، وأصبح البرنامج يباع دون النظر لقيمة ما يقدِّم سيطرتْ مافيا الإعلانات على سوق الفن في مصر إنتاجًا وترويجًا ونجومًا) (المقال السابق بتصرفٍ).

(وفي ظل كوارث الإعلانات حدثت انقسامات خطيرة في السلم الاجتماعي في مصر. نحن أمام شاشات تثير الحقد الطبقي بكل ألوانه وأنواعه، نحن أمام أنواع من الأطعمة الجاهزة لا يقدر عليها بسطاء الناس، ورغم هذا يلح عليهم آلاف المرات كل يوم، ويشاهد الأطفال الصغار من أبناء العشوائيات نماذج مستفزة من المشروبات والأطعمة، نحن أمام أنواع من الفيلات والقصور وأسعارها المحبطة بالملايين، وهناك 13 مليون شاب بلا عمل، نحن أنواع من السيارات والملابس التي تطارد البسطاء كل يوم على الشاشات).

هناك (الإعلانات المستفزة التي تشجِّع الإنفاق والإسراف، بل والسفه، والأغرب من ذلك: تلك الإعلانات التي تسيئ للغة الحوار، والكلمات الفجة التي تتسم بالسوقية والابتذال!)، لقد (تحول العشرات من الصحفيين الأكفاء إلى مندوبي إعلانات حتى إن جهاز الكسب غير المشروع تدخل في القضية؛ لأن عددًا كبيرًا من الصحفيين جمعوا أموالًا ضخمة من الإعلانات، والجهاز يحقق في شرعية هذه الأموال، وأحقية أصحابها بها). (كان الإعلان سببًا في تقليص دور المادة الإعلامية وتشويه دورها، واختزاله في كل الوسائل).

(إن اختيار البرامج على ضوء ما تجمع من الإعلانات بعيدًا عن قيمتها ورسالتها قد هبط كثيرًا بمستوى البرامج على شاشات الفضائيات)، (وما يجري الآن بين أجهزة الإعلام بكل أنواعها ومعاركها الدائمة من أجل الحصول على صفقة إعلانية يمثِّل الخطر الحقيقي على الإعلام المصري الذي تحول إلى لعبة في يد مَن يملكون الآلة الإعلانية الجهنمية التي سيطرت على عقول الناس) (المقال السابق بتصرف).

تراجع الصحافة المصرية:

لمصر تاريخ طويل في عالم الصحافة يمتد بجذوره إلى القرن التاسع عاشر، ولعبت الصحافة دورًا كبيرًا في تنمية الوعي والفكر في مصر والعالم العربي، وشهدت مؤسساتها الصحفية والتي يعد العديد منها بمثابة مدارس صحفية ظهر فيها كتاب وصحفيون مشهورون، ولكن في السنوات الأخيرة من عهد مبارك (عصفت بها متغيرات كثيرة في سوء الإدارة، واستباحة المال العام، وإهدار القدرات البشرية المميزة، وتكدس العاملين في مؤسسات تعرضت لعملية استنزاف لمواردها وقدرات العاملين فيها. كان من أخطر مظاهر التراجع في صحافة مصر: تراجع مستوى التوزيع، بحيث وصل إلى أرقامٍ لا تتناسب مع تاريخ صحافة وصلت في يوم من الأيام إلى رقم المليون توزيعًا في اليوم الواحد)، فقدت الصحافة الورقية مكانتها (أمام أسباب كثيرة، منها: تراجع المستوى المهني والحرفي في العمل الصحفي، وسوء الإدارة والتعيينات بلا حاجة أو أسباب، وقبل هذا كله، فإن سوء استخدام موارد الصحف في عهودٍ مضت كان سببًا في تراجع مستواها مهنيًّا وماليًّا، لقد أسرفت الصحف جميعها وبلا استثناء في استخدامها مواردها المالية ما بين هدايا للمسئولين للبقاء في المناصب، والسفريات والرحلات، وكلها مظاهر من البذخ وسوء الإدارة)، و(رحيل الكتاب الكبار خلال السنوات الماضية)، و(وجود حلقة مفقودة بين الأجيال الصحفية؛ سواء بسبب المناصب أو القرب والبعد عن السلطان، وقد أدَّى ذلك إلى تهميش وجوه كثيرة من أصحاب المواهب الحقيقية لم تأخذ فرصتها التي تستحقها في الظهور أمام القارئ، بل إن البعض تم استبعادهم تمامًا، وبسوء قصدٍ أمام نفوس مريضة وطموح كاذب، وهناك أسماء دفعت ثمن تميزها وقدرتها الفريدة في بلاط صاحبة الجلالة).

كما (كان التداخل بين الإعلانات والتحرير من أهم أسباب فقدان الصحافة المصرية لأهدافها الحقيقية، وقد سيطرت أموال الإعلانات على المؤسسات الصحفية؛ مما أعطى رجال الأعمال ورأس المال فرصًا للتدخل في شئون الصحافة المصرية، بل وصل الأمر إلى تعيين المسئولين عنها لدى سلطة القرار.

وقد وصل الأمر أحيانًا إلى تفكير الدولة في بيع المؤسسات الصحفية للمستثمرين ورجال الإعلام، وكان ذلك حساب المستوى المهني، بل والمستوى الأخلاقي في تعامل الصحافة مع قضايا الوطن). (ارتبطت المؤسسات الصحفية دائمًا بإدارات مسئولة من الناحية المالية والإدارية، ولكن جاء عليها وقت فقدت عناصرها الإدارة الرشيدة)، (وكان جمع منصب رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة من الأخطاء التي أفسدت الاثنين معًا: الإدارة والتحرير)، و(حين فقدت الصحافة رموزها الكبيرة لم تكن هناك بدائل تملأ الفراغ، وحدثت قطيعة بين الأجيال، ولم تجد الأجيال الصاعدة المساعدة من أجيال سبقت على المستوى المهني والثقافي، بل إن الأجيال الجديدة في بلاط صاحبة الجلالة في مصر لم تجد مَن يأخذ بيدها مهنيًّا وثقافيًّا ورسالة ودورًا، وهنا تخرجت أجيال جديدة اختارت أن تكون ظلالًا في وسائل الإعلام الأخرى، مثل: إعداد البرامج في الفضائيات، وقد حدث تداخل شديد بين ما يجري في الإعلام الفضائي من أخطاء وما انتقل إلى صاحبة الجلالة من أمراض الفضائيات). ورغم المساحة المتاحة من الحريات (ولكن القصور أحيانًا يأتي من الأيادي المرتعشة، وهذا ميراث طويل خلفته سنوات الخوف والرقابة، ولا ينبغي أن نصل إلى هذه الحالة مرة أخرى) (راجع في ذلك مقالة: "ثقوب في ثوب صاحبة الجلالة" للكاتب فاروق جويدة - الأهرام الأسبوعي الجمعة 7 سبتمبر 2018 م بتصرف).