الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 25 نوفمبر 2019 - 28 ربيع الأول 1441هـ

الفساد (35) الأحزاب والحياة السياسية في مصر (3-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتمتلك مصر تاريخًا عريقًا في الممارسة البرلمانية يزيد عن قرنٍ ونصف قرنٍ مِن الزمان، وتاريخًا عريقًا في الحياة الحزبية السياسية يزيد عن قرنٍ، فقد "عرفت مصر أشكالًا من المجالس الاستشارية منذ العقد الثالث من القرن التاسع عشر مع تكوين مجلس المشورة عام 1829م. وفي عام 1866 م أنشأ الخديوي إسماعيل مجلس شورى النواب الذي استمر حتى مارس 1882م. وفي مايو 1883م في ظل الاحتلال الإنجليزي أنشأ الخديوي توفيق مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية. وفي عام 1913م تم إنشاء الجمعية التشريعية التي مارست عملها حتى يونيو 1914م، عندما توقفت الحياة النيابية في مصر بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم صدر أمر حلها في أبريل1923 م.

ووفقًا لدستور1923م تكون البرلمان من مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وعقد أول اجتماع لكل منهما في 15 مارس عام 1924م، وتتالت المجالس النيابية التي تعرضت غالبيتها العظمى للحل بمرسوم ملكي قبل انتهاء مدتها، وكان آخر حل في أعقاب حريق القاهرة في يناير 1952م، عندما تم حل مجلس النواب في مارس فظلت مصر بدون برلمان حتى قيام ثورة يوليو من نفس العام.

وفي فبراير 1953م تم الإعلان عن مرحلة انتقالية لمدة ثلاث سنوات تم خلالها ممارسة السلطة التشريعية من خلال مجلس قيادة الثورة، وعاشت مصر بدون هيئة تشريعية حتى صدور دستور 1956م، ووفقًا له تم انتخاب أول مجلس نيابي بعد الثورة، وهو (مجلس الأمة) الذي بدأ عمله في يوليو 1957م واستمر حتى مارس 1958م، وعقب الوحدة مع سوريا وصدور الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة في عام 1958م، تم تشكيل مجلس الأمة للدولة الجديدة بقرار من رئيس الجمهورية على أن يكون نصف أعضائه على الأقل من بين أعضاء مجلس الأمة المصري ومجلس النواب السوري.

وبعد الانفصال عن سوريا في سبتمبر1961م عاشت مصر دون برلمان حتى مارس عام 1964م عندما صدر دستور مؤقت قام في ظله مجلس الأمة، واستمر هذا الوضع حتى صدور الدستور الدائم لمصر عام 1971م، وبشكل عام اتسمت الحياة النيابية من عام 1966م بعدم الاستقرار، ولم تعرف النصوص الدستورية التي وردت في دستور عام 1923م -والتي تعطي حقوق الرقابة والتشريع للبرلمان- طريقها دائمًا إلى التطبيق بسبب الصراع بين الملك والوفد قبل ثورة يوليو، وهيمنة السلطة التنفيذية على العمل البرلماني" ("انظر النظام السياسي المصري بين إرث الماضي وآفاق المستقبل"، د. علي الدين هلال، ط. مكتبة الأسرة 2010م، ص 174-175).

"وعبر هذا التاريخ الطويل شهدت مصر 15 وثيقة دستورية حملت أسماء القوانين الأساسية والنظامية، واللوائح، والأوامر الخديوية والأوامر الملكية، والإعلانات الدستورية والدساتير" (المصدر السابق، ص 30).

وتعاني مصر -ودول العالم الثالث عامة- من ضعف في المشاركة الشعبية في العمل السياسي، وفي العملية الديمقراطية، ومن ضعف في المشاركة في التصويت؛ سواء في انتخابات مجلس الشعب، أو انتخابات مجلس الشورى.

وذلك لأسبابٍ عديدة، لعل مِن أهمها غير ما تعرضنا له مِن قبل:

1- انتشار الأمية:

فنسبة الأمية والجهل بالقراءة والكتابة في مصر مرتفعة، بل هناك مَن أتم المرحلة الابتدائية من التعليم وما زال في عداد الأميين، ويبلغ عدد هؤلاء عشرات الملايين من المواطنين، وانتشار هذه الأمية يؤثِّر على المشاركة السياسية كما يؤثر على محاولات التنمية.

إن نصف السكان الأميين -على الأقل- يعيشون تحت خط الفقر، ويزحفون إلى المناطق الراقية في صورة عشوائيات، فحي المعادي في القاهرة -مثلًا- كان مثالًا للرقي والنظافة؛ فأصبح محاطًا بالعشوائيات، والأسواق غير الصحية وغير النظيفة، مع فوضى الباعة الجائلين والكلاب الضالة، ومثله غيره مِن أحياء القاهرة التي تشهد هذه الفوضى السكانية في مصر الجديدة ومدينة نصر، بل وحي الزمالك العريق، إلى جانب تزايد سائقي التوك توك والميكروباص الأميين الذين يملأون الشوارع والطرقات والأزقة، وهم يجهلون قواعد قيادة السيارات ولا يلتزمون بها، فيتسببون في الحوادث الكثيرة والأزمات المرورية!

وقد انتقلت حالة الفوضى التي يمارسونها إلى كثير ممن يقود السيارات من المتعلمين، فصارت هي السمة الغالبة عليهم، كما تحولت مشاهد أكوام وتجمعات القمامة في التجمعات السكنية في تلك الأماكن الفقيرة ذات الأمية العالية إلى مناطق أخرى حولها، ولا شك أن هذه النسبة المرتفعة من الأميين والفقراء هم أبعد الناس عن الاهتمام والمشاركة في الحياة السياسية أو العملية الديمقراطية التي لا يسمعون عنها إلا أثناء الحملات الانتخابية من خلال دعوتهم للمشاركة فيها، وهم أبعد الناس حال المشاركة فيها عن استيعاب ما يجب عليهم فيها، وبالتالي لا يهتمون بها إلا فيما يعود عليهم بالنفع المؤقت؛ مما يجعل من السهل التغرير بهم وخداعهم بالرشاوى المالية والعينية، والخدمات والوعود الانتخابية، سواء من الحزب الحاكم في الغالب، أو من أحزاب المعارضة إذا نجحت في تعبئتهم وحشدهم للمشاركة.

"وبالإضافة إلى تلك الآثار السلبية، فإن الأمية المرتفعة في العالم الثالث قد أغرت الحكام على انتقاء بعض المسائل الدستورية التي لا يعيها المواطن، ولا يفهمها فهمًا جيدًا، ثم قاموا بعرضها على المواطنين عن طريق الاستفتاء الشعبي، وغالبًا ما تكون الغاية من الاستفتاء هي: إضفاء الشرعية الصورية على تصرفات أو شخص الحاكم" (انظر: "أزمة القرار السياسي في دول العالم الثالث" د. فضل الله محمد إسماعيل، كلية الآداب دمنهور جامعة الإسكندرية، الناشر: مكتبة بستان المعرفة - كفر الدوار، 2005 م).

إن "القضاء على هذه الأمية، سيرفع مستوى الذكاء والوعي، والنظافة والنظام والمرور، والتربية، والعلاقات الاجتماعية، والمشاركة السياسية، والعمل والإنتاج، وسيساهم في إصلاح العشوائيات ومقاومة الأمراض وزيادة الوعي الصحي، وسيرفع مستوى الحياة، ويقرب الفوارق الاجتماعية بين الطبقات" (انظر: "هكذا يجب أن تحكم مصر" للفنان التشكيلي د. ياسر شحاتة، دار الثقافة الجديدة للنشر، القاهرة، ط. أولى 2016م، ص 25).

الاستفتاء الشعبي سلاح ذو حدين:

يعد الاستفتاء الشعبي وسيلة من وسائل الديمقراطية شبه المباشرة، ولكن هناك مَن يراه غير محبذ في دول العالم الثالث؛ لأنه يُستخدم في الغالب كأداة طيعة لديكتاتورية مقنعة لا سند لها في حقيقة الأمر غير موافقات شعبية صورية، إذ يسهل على الحاكم منظم الاستفتاء أن يحصل على التأييد الشعبي الظاهر لشخصه ولسياسته، وللتغلب على العقبات القانونية والمعارضة الوطنية التي تعترض على طريقة حكمه، وذلك باختيار الوقت الملائم للاستفتاء وتكريس وسائل الدعاية والإعلام لتأييد وجهة نظره، إلى غير ذلك من الوسائل التي قد تصل إلى حد تزييف نتائج الاستفتاء لإعلاء كلمته وادعاء شعبيته.

إن سيطرة الحكومات على وسائل الإعلام تجعلها لا تظهر لعامة الناس إلا وجهة النظر المؤيدة لموضوع الاستفتاء المطلوب، ولا تسمح لوجهة النظر المقابلة أو المعارضة بالتعبير عن نفسها، فلا تكون الصورة كاملة أمام المواطنين للاختيار بين الموافقة أو الرفض على بينة بالأمر المطروح للاستفتاء والقيام بالدراسة الكافية له، وهو ما يمكن أن يتم داخل البرلمان من خلال الديمقراطية النيابية، أي بتفضيل نظام الحكم النيابي الخالص في الدول النامية؛ إذ يمكن للطلائع الشعبية الواعية في البرلمان فهم الأمور ومعالجتها.

فالاستفتاء الشعبي يتوقف على مدى نضج الوعي السياسي لجمهور الشعب، فلا يمكن اعتباره شرًّا أو خيرًا في ذاته، وإنما يتوقف تقويمه وثقله على توفر أو تخلف مقوماته وعوامل نجاحه، فهو يمكن أن يكون وسيلة فعالة من وسائل الديمقراطية غير المباشرة، كما يمكن أن يكون أداة خطيرة من أدوات الديكتاتورية، فهو إذا شئنا القول: سلاح حاد يمكن أن يستخدم في الدفاع عن الديمقراطية والذود عنها، كما يمكن أن يستخدم في القضاء عليها والفتك بها. (انظر "أزمة القرار السياسي" ص 36-38)، و للاستزادة راجع: "الاستفتاء الشعبي بين الأنظمة الوضعية والشريعة الإسلامية" د. ماجد الحلو، ط. مكتبة المنار الإسلامية، الكويت"، "نظرات في أنظمة الحكم في الدول النامية" د. عبد الحميد متولي).

2- الضعف الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي:

فالتقدم والازدهار الاقتصادي يكون معه إشباع الحاجات الأساسية، ويتيح للفرد فرصة ومساحة أكبر للمشاركة في الحياة السياسية، ويخفف من التوترات الاجتماعية والفوارق بين طبقات المجتمع، فتتكون أرضية مشتركة ونوع من الاتفاق الجماعي على الأسس الرئيسة التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع ويتعايش في ظلها، وبالتالي السماح بتبادل السلطة وتداولها، وانتقالها بطرق سلمية بين أصحاب الرؤى الفكرية المختلفة في المتغيرات والمتفقة في الثوابت.

أما التخلف الاقتصادي وانتشار الفقر وتنامي التفاوت الاجتماعي فهو يعمق من التوتر الاجتماعي من خلال تمتع أقلية بامتيازات مادية ومعنوية تجعلها تعيش في رفاهية وسواد أعظم يعاني من الحرمان، ومن آثار التوتر الاجتماعي الكراهية والرؤية السياسية المعتمة بسبب افتقاد الجماعة السياسية للأرضية المشتركة، مما يزيد من السلبية السياسية ويقلل من مساحة الحريات السياسية، وبالتالي: يضعف المشاركة الشعبية في الحياة السياسية ويجعل التنافس فيها غير سلمي ويتصف بالحدة والعنف (راجع: "أزمة القرار السياسي"، ص 29-32).

3- ضعف المعلومات والبيانات المتاحة:

يعاني المواطنون من نقص البيانات والمعلومات المطلوبة التي يحتاجونها للمشاركة الإيجابية في الحياة السياسية، خاصة من خلال وسائل الإعلام الرسمية التي عليها دور كبير في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية، حيث تطغى الجوانب السلبية للإعلام على الجوانب الإيجابية نتيجة عدة أمور، منها:

1- سيطرة الدولة على وسائل الإعلام الرسمية، وعلى تقديم المعلومات لها، فلا تتيح منها إلا بالقدر التي ترى السلطة إعطائها لها، فضلًا عن احتمالية تقديم هذه المعلومات بقدرٍ وطريقةٍ تخدم التوجه السياسي الأحادي للنظام الحاكم.

2- المركزية الإعلامية المبنية على تبرير سياسات السلطة أيًّا كان نصيبها مِن الصحة؛ مما يؤدي إلى تزييف الوعي السياسي للمواطنين، فلا تثير النقاشات الجادة حول القضايا العامة ومشاكل المجتمع الكبرى، وتشرك المواطنين فيها؛ ناهيك عن عدم الاهتمام المطلوب لبث القيم وطرح النماذج السلوكية التي تساعد على الممارسة الديمقراطية السليمة.

3- التحدث إلى الناس ولا تتحدث معهم، إذ تنقل رسائل القمة إلى القاعدة دون القيام بالتغذية العكسية، بمعنى: ردود أفعال القاعدة إلى القمة، حتى يتم التفاعل بين الحاكم والمحكوم في رؤيا قضايا المجتمع.

4- إسناد إدارة الوسائل الإعلامية المختلفة إلى مجموعة من الأفراد الذين تربطهم صلة بالفئة الحاكمة فقط، فلا تهتم سوى بتغطية أخبار السلطة وكل ما يرتبط بها دون غيرها.

5- افتقاد المصادر البديلة للمعلومات في ظل سيطرة وسائل الإعلام الرسمي الموجهة من النظام الحاكم.

6- توجيه السلطة للمؤسسة الدينية لخدمة توجهها السياسي، والسيطرة على تعيين الخطباء والأئمة في المساجد والتحكم فيما يخوضون فيه من قضايا؛ مما يوجد فجوة ونقص ثقة بينهم وبين المتلقي عنهم.

7- افتقاد البرامج والأعمال الإعلامية التي تساهم المساهمة الفعالة في غرس القيم السياسية وتقوية الشعور بأهمية آليات الديمقراطية في الحياة السياسية، وتنمية المشاركة السياسية فيها لدى المواطنين.

4- السلطة الأبوية والانفراد بالرأي:

فمن جهة: الرئيس هو مركز القوة يزاول سلطته دون محاسبة أو رقابة جادة من أي هيئة، فالسلطة استبدادية أو تميل إلى الاستبداد، ومن جهة أخرى: فالرئيس يعتبر نفسه (كبير العائلة) فلا يجوز أخلاقيًّا معارضته وقراره مطاع، ولا مانع أن يعامل الرئيس مواطنيه معاملة الأب لأولاده القصر، أي على أنهم غير قادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم؛ لذا فله توجيهم وعقابهم إذ خالفوه؛ لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية (راجع "أزمة القرار السياسي" ص 42-43).

لقد ساهمت الممارسة الاشتراكية في عهد عبد الناصر في اعتماد المواطن على الدولة في تعليمه وتوفير العمل المضمون والسكن الدائم، وفي دعم احتياجاته الأساسية من المأكل والمشرب والملبس، أي تولي كافة شئونه بما فيها شئونه السياسية نيابة عنه، والمواطن ارتضى ذلك واعتاد عليه.

أضف إلى ذلك: طول مدة حكم الحاكم، والتي تبدأ بنزعة مثالية تسيطر عليها الرغبة في التضحية في سبيل المبادئ، ومع استمرار السلطة -وكلما كانت السلطة مطلقة كانت مفسدة- لعبت السلطة بالرؤوس فأسكرتها (المصدر السابق، ص 53).

يقول د. فضل الله محمد إسماعيل: "إن تمسك الرئيس أو الحزب الحاكم بالحكم لفترة طويلة في الدول النامية يجعل الصدأ يزحف إلى نشاط الحزب وزعمائه وقراراته وأساليب عمله؛ وذلك لطول بقائهم على القمة، مما يضعف نزعتهم المثالية ويصيبهم بالجمود، وذلك ما لم يكن على رأس الحكم شخصية قوية مثل نهرو في الهند" (المصدر السابق، ص 54).

ويقول: "إن مِن الخطأ تشبيه السلطة السياسية في الدولة بالسلطة الأبوية في الأسرة، فهذه الأخيرة شخصية ترتبط بأشخاص رب الأسرة وأفرادها، أما السلطة السياسية فهي مجردة ودائمة، أي أن السلطة الأبوية تزول بوفاة رب الأسرة أو ببلوغ الأطفال سن الرجولة والاستقلال بأنفسهم. أما السلطة السياسية فهي دائمة رغم تعاقب الأشخاص الذين يمارسونها، كما أن رب الأسرة لا يستطيع أن يتخلى عن سلطته، بينما للحاكم أن يتنازل عن الحكم وقتما شاء)" (المصدر السابق، ص 43).

ويزيد هذا الأمر سوءًا: أن يكون للحاكم بطانة سوء، وهذا أمر لا يخلو منه ميدان سياسي في كل زمان ومكان؛ لوجود أصحاب النزعة النفعية من الوصوليين والمنافقين، وهم أغلبية، يكثر ويعلو شأنهم خاصة في وجود الحكومات المكونة من العسكريين.

"فهذه البطانة تجعل الحاكم يظن أنه يسير دائمًا إلى الأمام وفي أمان، وأن قراراته وتصرفاته تسودها كلها العدالة والقانون، وأن الشعب في نعيم وازدهار، بينما هو في الواقع على حافة الانهيار، وذلك بسبب أخذه بمبدأ: أهل الثقة فوق أهل الكفاءة!"؛ لذا وصف البعض بطانة السوء بأنها أفيون الحكام! (راجع المصدر السابق، ص 55).

والمجتمع السلطوي القائم على احتكار السلطة والهيمنة على مجمل الفضاء السياسي ليس فقط مجرد نظام سياسي استبدادي؛ لأن السلطوية "أيضًا ثقافة تغلغلت في نسيج المجتمع، وتسببت في الخوف الشديد من السلطة والخنوع الجمعي، وأسست للوعي الزائف الذي مؤداه أن الجماهير تعجز عن مقاومة الاستبداد، وأنها لا تستطيع اتخاذ المبادرة في المعارضة الجذرية لتغيير سياسات النظام المنحرفة، أو في الانتفاضة الثورية لقلب النظام" (راجع: الفصل السابع "دور المجتمع المدني في الدولة التنموية" للسيد ياسين من كتاب: "التحول في بنية المجتمع المدني بعد الثورات المصرية" تحرير د. يسري العزباوي - مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ط. 2015م، ص 232).

و"مِن أجل النهوض بالمجتمع المصري والممارسة الديمقراطية: تحتاج مصر إلى إذابة قيم المجتمع الأبوي، وتكريس قيم المجتمع التشاركي، ومشاركة الشعب في السلطة والحكم، وليس مجتمعًا يتحول فيه الشعب إلى شعب يطيع الأوامر، ولا يعطي نفسه حق المشاركة" (راجع: "هكذا يجب أن تحكم مصر"،  ص 40-41).

5- إضعاف المعارضة وإضعاف تمثيلها في البرلمان:

إذا كانت النظم الشمولية تمنع تعدد الأحزاب، فإن هناك نظمًا في الدول النامية تدعي التعددية الحزبية، ولكنها تضيق ذرعًا بأي أحزاب معارضة إلى جانب حزبها الحاكم المتسلط على الدولة والمهيمن على الحكم فيها، ودأبها إيجاد معارضة صورية ضعيفة مستأنسة، وهذا ما عاشته مصر في عهد مبارك، وهذا ما أثار حفيظة السادات، فاتخذ قرار اعتقال كل رموز المعارضة في 5 سبتمبر 1981م، أي قبل اغتياله بشهر واحد فقط.

ومِن قبلها عمد السادات "في عام 1973م إلى فصل نحو مائتين من الصحفيين بقرارٍ واحدٍ دون أن يكون هنالك صحفي واحد كانت لديه الجرأة أن يعترض، بل إن الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين اجتمعت وبعثت برقية أعربت له فيها عن كل الحب والتأييد، ثم عدل الرئيس عن قراره فأعاد الصحفيين المفصولين إلى أعمالهم بعد أن نضب فيهم معين الشجاعة، وانطفأت فيهم شعلة الحماس، فانتفت الحاجة إلى إقامة رقيب عليهم" (راجع "أزمة القرار السياسي" ص 18-19).

"إن دول العالم الثالث تقوم نظم الحكم فيها بالإشراف على الصحف إشرافًا كاملًا ودقيقًا، ويستهدف هذا الاحتكار للصحف بصفة خاصة ولوسائل الإعلام بصفة عامة إحكام السيطرة على الرأي العام وتوجيهه بما يتفق وأهداف القيادات السياسية، وتغذية الجماهير بأيديولوجية النظام وحده مع استبعاد جميع النظريات والأيديولوجيات الأخرى التي تتعارض مع أهدافه" (المصدر السابق، ص 19).

إن تجريم المعارضة بالتشريعات والقوانين والتنكيل بها في كثيرٍ مِن الدول النامية ذات الحزب الواحد، وامتد إلى دول ذات نظام الحزبين حيث كان حزب الأغلبية الذي يتولى الحكم يعمل بكل الوسائل على القضاء على حزب المعارضة قضاءً تامًّا "وقد بلغ الأمر في عهد (نكروما) في غانا إلى حد صدور قانون بتحريم المعارضة استنادًا إلى أن المعارضة تلجأ إلى أساليب تضر بالوحدة الوطنية، وإلى أنها تقوم بترويج إشاعات وأخبار كاذبة، وقد كان جميع زعماء المعارضة في عهده إما في المنفى أو في السجون" (راجع المصدر السابق، ص 48)، وهذا يحدث بلسان الحال لا المقال، والقوانين والتشريعات الصريحة في كثيرٍ مِن الأنظمة التي لا تقبل أي معارضة فيها.

ومِن الوسائل السلمية لإضعاف المعارضة أو القضاء عليها: التودد والتقرب من رجال المعارضة؛ للانضمام إلى جانب المؤيدين للحكومة بمنح امتيازات للجذب، وحين فشل المحاولة فيمكن اللجوء للشدة والعنف، وكذلك بإصدار قوانين وتشريعات تؤثر على المعارضة وتحد من قدراتها.

إن الانتخابات التي جرت في مصر منذ عام 1976م وحتى قيام ثورة يناير 2011م اتسمت بشدة ضعف تمثيل المعارضة فيها، حيث بلغت أعلى نسبة تمثيل لها 3و23 % من إجمالي المقاعد، بينما بلغت أقل نسبها 3و1% فقط من إجمالي المقاعد، أي ستة أعضاء فقط في البرلمان! (راجع: النظام السياسي المصري، ص 238).

بينما لم تبلغ نسبة المشاركة الشعبية الفعلية في أغلب انتخابات البرلمان 30 % من عدد المقيدين في جداول الانتخاب، ويلاحظ: أن المدن بما فيها القاهرة والإسكندرية اتسمت بتدن بالغ في نسب المشاركة مقارنة بمحافظات الريف والصعيد (المصدر السابق، ص 232).

كما يلاحظ: أن أعداد المرشحين من المستقلين في كل الانتخابات كانت أكثر من أعداد المرشحين من أحزاب السياسية مجتمعة، ويمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى ضعف الحياة الحزبية عمومًا، وضعف الالتزام التنظيمي في الأحزاب السياسية بما فيها الحزب الوطني، حيث انشق عنه أعداد من أعضائه للترشح كمستقلين بعد عدم ترشيح الحزب الوطني لهم، ثم عودتهم للحزب بعد نجاحهم في الانتخابات كمستقلين!