الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 01 سبتمبر 2019 - 2 محرم 1441هـ

الوظيفة والغاية

كتبه/ أحمد فريد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما هي الوظيفة التي خلقنا الله مِن أجلها؟ وما هي الغاية التي ينبغي علينا أن نصل إليها؟ لا شك في أن هذين السؤالين من الأهمية بمكان، يجب على العاقل أن يعرف إجابتها؛ لأن ذلك يترتب عليه نجاة العبد في الآخرة، وفوزه بالجنة ونجاته من النار، قال الله -تعالى-: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك:22).

فمَن يعرف الوظيفة التي خُلق مِن أجلها، والغاية التي يجب عليه أن يسعى إليها، يسير سويًّا على صراط مستقيم، وكما يقولون الحظ المستقيم هو أقرب الطريق بين نقطتين، أما مَن لم يعرف وظيفته أو غايته، فكلما خطا خطوة انكفأ على وجهه؛ لأنه لا يعرف هدفًا ولا وظيفة، ولأهمية هذين السؤالين أتت الإجابة عليهما واضحة صريحة في كتاب الله -عز وجل-، بل أول أمر في القرآن بيَّن الله -عز وجل- فيه الوظيفة والغاية، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21).

فالوظيفة هي العبودية لله -عز وجل-، والغاية هي الوصول إلى تقوى الله -عز وجل-، وقال -عز وجل- كذلك مبينًا الوظيفة والغاية في سورة النحل: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل:2).

وبينت بعض الآيات الوظيفية وحدها، فقال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فالله -عز وجل- خلقنا لوظيفة محددة، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومِن أجل هذه الوظيفة كذلك أرسل الله -عز وجل- الرسل وأنزل الكتب، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)، وقال -تعالى-: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45).

فالرسل والدعاة بدعوة الرسل يحررون الناس مِن عبادة غير الله -عز وجل-، ويشرفوهم بأن يجعلوهم عبيدًا لله -عز وجل-، وقد فهم ربعي بن عامر -رضي الله عنه- هذه الوظيفة لما دخل على رستم، فقال رستم: "ما الذي جاء بكم؟"، قال: "إن الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

والعبادة لله -عز وجل- شرف في الدنيا والآخرة، كما قال القاضي عياض:

ومـما زادنـي شـــرفـًا وتـيهـًا            وكـدت بـأخمـصي أطأ الثريـا

دخولي تحت قولك يا عـبـادي           وأن صـيـرت أحــمـد لي نبيًّا

وكلما كملت عبودية المسلم لله -عز وجل-، تحرر مِن عبودية مَن سواه، وكلما كملت عبوديته كملت سعادته، وكلما نقصت عبوديته نقصت سعادته، فكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة غير الله -عز وجل- لفسدتا، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها غير الله -عز وجل- لفسدت بذلك فسادًا لا يرجى له صلاح، حتى تعرف ربها -عز وجل-، وتعبده بأمره ونهيه، والقلوب خُلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب، وإذا خلا القلب من حب الله فهو كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء والجسد الميت.

ولما كانت حياة القلوب وسعادتها في عبوديتها لله -عز وجل- كان علاجها كذلك إذا أصابها شيء من الهم والغم والحزن في تجديد التوحيد، والتسليم للشرع المجيد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

وقد استشعر العلماء والعباد والزهاد هذه السعادة لما كملت عبوديتهم لله -عز وجل-، فقال بعضهم: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك، ما نحن فيه من نعمة، لجالدونا عليها بالسيوف"، وقال بعضهم: "أهل الليل في ليلهم، ألذ مِن أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، وقال بعضهم: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة"، وقال بعضهم: " والله إنه لتمر بي أوقات، يرقص فيها القلب طربًا"، وقال بعضهم: "والله إنه لتمر بي أوقات، أقول: "إن كان أهل الجنة كما نحن فيه، والله إنهم لفي عيش طيبة"، وقال بعضهم: "أنا منذ أربعين سنة ما أزعجني إلا طلوع الفجر".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن في الدنيا جنة، مَن لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة"، وكان يقول: "ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي معي، بستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله"، ولما دخل القلعة نظر إلى سورها العالي، وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد:13).

أما الغاية التي يجب على كل مسلم أن يسعى إليها فهي الوصول إلى تقوى الله، وإنما قلتُ ذلك، لأن الله -عز وجل- قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189)، فلما كانت التقوى موصلة إلى الفلاح، كانت هي الغاية، ولأن الله -عز وجل- بيَّن الحكمة مِن كثيرٍ مِن العبادات، وأن المراد بها الوصول إلى تقوى الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وقال -تعالى-: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) (الحج:37).

وبيَّن -عز وجل- في كتابه أن الجوائز في الآخرة كلها للمتقين، فقال -عز وجل-: (وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف:35)، وقال -عز وجل-: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (ق:31)، وقال -تعالى-: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا) (مريم:63)، وقال -عز وجل-: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (البقرة:212)، وقال -عز وجل-: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا) (الزمر:73)، أي: جماعات جماعات، وقال -عز وجل- على سبيل الإجمال: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) (النبأ:31)، ثم فصل فقال: (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا . وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا . وَكَأْسًا دِهَاقًا . لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا . جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) (النبأ:32-36)، وقال -عز وجل- أيضًا على سبيل الإجمال: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (ص:49)، أي مرجع، ثم فصل فقال: (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ . مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ . وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ . هَ?ذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ . إِنَّ هَ?ذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) (ص:50-54)، وأخبر عن قربهم مِن الحضرة، واللقاء والرؤية والبهاء، فقال -عز وجل-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (القمر:54-55).

بقي أن نعرف أن التقوى هي استشعار قرب الله -عز وجل- منك، كما قال بعضهم: "التقوى هي علم القلب بقرب الرب"، فكلما اجتهد العبد في طاعة الله -عز وجل- استشعر هذا القرب، كما قال -تعالى-: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) (العلق:19)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ) (رواه مسلم)، فاستشعار هذا القرب هو تقوى الله -عز وجل-، ليس مَن كان في قصر الملك، على بساط الملك، ينظر إلى الملك والملك ينظر إليه، كمَن كان خارج القصر، أو خارج مدينة الملك، أو لا يستشعر وجود الملك بالكلية.  

بقي أن نعرف أيضًا: أن الوظيفة توصل إلى الغاية، فالطاعة والعبودية لله -عز وجل- توصيل إلى تقوى الله -عز وجل-، كما يقولون: "الطاعة تولد القرب، والقرب يورث الأنس، والمعصية تولد البعد، والبعد يورث الوحشة"، فإذا اجتهد العبد في الطاعة، أنس بالله -عز وجل- لقربه، وسعد بالله -عز وجل-، واستغنى بالله -عز وجل-، وإذا عصى الله -عز وجل- استشعر الوحشة؛ لأن الله -عز وجل- يبعده بقدر معصيته فتحصل الوحشة بينه وبين الله -عز وجل-، وبينه وبين عباد الله المؤمنين.