الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 18 أغسطس 2019 - 17 ذو الحجة 1440هـ

الفساد (24)

هل الديمقراطية ديمقراطية (3-3)؟

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد انتشر الأخذ بالنظام الديمقراطي في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي، ثم انتقل بعد ذلك وانتشر في باقي دول العالم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وسقوط أكبر الأنظمة الدكتاتورية فيها، ثم في العقود الأخيرة بعد سقوط الشيوعية وسقوط معظم النظم الاشتراكية ونظم الحزب الواحد.

وقد جعل ذلك البعض يقدِّس الديموقرطية ويظنها -مع الفكر الرأسمالي والليبرالي- أعلى ونهاية ما وصل إليه الفكر البشري؛ وعليه فيجب الأخذ بها دون الالتفات لغيرها، خاصة مع نجاحها على القضاء على الاستبداد الديني للكنيسة في أوروبا في القرون الوسطى، والقضاء أيضًا على الاستبداد السياسي والاقتصادي فيها، متجاهلين كل ما تكلم به -ويتكلم به- الكثير مِن المفكرين والمصلحين عن سلبيات الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية، وإن أقروا استمرار العمل بها عندهم كأنسب المتاح حاليًا مِن الفكر البشري، مع السعي إلى الحد مِن سلبياتها، ومعالجة آثارها السيئة.

هل توافق الديمقراطية الإسلام؟

لا يصح أن يقال: هل يتفق الإسلام مع الديمقراطية؟ ولكن ينبغي أن يقال: هل تتفق الديمقراطية مع الإسلام؟ حيث إن:

1- الإسلام دين مِن عند الله -تعالى-؛ أنزله لهداية البشر، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، بينما الديمقراطية فكر بشري وضعي له إيجابياته وسلبياته؛ لذا طرأ -ويطرأ- عليه عند تطبيقه الكثير مِن المتغيرات والتعديلات، وتتفاوت الدول من الناحية العملية في تطبيقه، فللديمقراطية في كل بلدٍ تجاربها.

2- للإسلام نظامه السياسي المستمد من مبادئ عامة أساسية ثابتة جاءت مفصلة، حول التشريع والشورى والعدالة والمساواة والحريات، والتسامح والتعاون، على الوجه الذي بيَّنته الشريعة الإسلامية، لا على الفهم الغربي، وهي مبادئ ينبغي أن لا تتغير -بتفاصيلها- من زمان إلى زمان، إلى جانب أطر عامة جاءت مجملة غير مفصلة لتستوعب جزئيات وتفاصيل كثيرًا ما تتغير باختلاف الظروف السياسية والاجتماعية، أي أن الشريعة الإسلامية فصلت ما لا يقبل التغيير، وأجملت ما يقبل التغيير، وهذا هو السر وراء صلاحية الإسلام ككل -والنظام السياسي له على وجه الخصوص- لكل زمان ومكان، أو بتعبير أدق: أنه لا صلاح لأي مكان في أي زمان إلا بالنظام السياسي للإسلام؛ لما فيه مِن مرونة ومراعاة لمصالح العباد، تسمح بتغير في التفاصيل والجزئيات لتوافق متغيرات كل عصر وفكر، مع الالتزام بما لا يمكن مخالفته من مبادئ أساسية لسياسة المجتمع.

4- الإسلام هو الأسبق ظهورًا لا الديمقراطية.

5- ظهور الديمقراطية كان للقضاء على كل صور الاستبداد التي عانى منها الأوروبيون في القرون الميلادية الوسطي، ومنح الحريات العقائدية والسياسية والاقتصادية والفكرية والشخصية التي افتقدها الأوربيون خلال فترات الاستبداد التي عاشوها، ولكن الديمقراطية بعد أن نجحت في تحقيق ذلك في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بالقضاء على صور الاستبداد القديمة، وتمكين الأغلبية من المشاركة في الحكم، ومراقبة الحكام ومحاسبتهم؛ تمادت في تسلطها حتى تحولت في كثيرٍ مِن صورها العملية إلى تحكم أقليات باسم الديمقراطية، وإلى طغيان فئات سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا باسم الحرية، حتى بدت في أعين البعض قد انتهى دورها، والإسلام بنظامه السياسي -شاء مَن شاء وأبى مَن أبى- هو ميزاننا في تقييم تجارب الديمقراطية في دول العالم، نرد منها ما يخالفه، ونقبل منها ما يوافقه.

اختلاف الآراء حول مبدأ سيادة الأمة:

يقول د."علي الباز" أستاذ القانون العام: لله السلطان وللأمة السلطات، فالله هو الخالق، وهو حاكم الكون كله، وله السادة والحكم والأمر، وله السلطان، وهو مصدره، ولكن للأمة السلطات، فالأمة مصدر السلطات في حدود الشريعة الإسلامية. وبالنسبة للسيادة التي يعرِّفها البعض بأنها هي السلطة العليا التي تملكها أعلى الهيئات العامة في الدولة تمارسها باستقلال كامل عن كل سلطة داخلية أو خارجية، فيختلف رجال الفقه الإسلامي والقانوني بشأن السيادة، ومَن يملكها، فيرى البعض: أن السيادة للأمة. ويرى المودودي: أن السيادة أو الحاكمية هي لله وحده وبيده التشريع. ويرى بعض الفقهاء: أن الأمة هي مصدر السلطات في الإسلام. ويرى الدكتور عبد الرزاق السنهوري: أن السيادة في الشريعة الإسلامية هي لله وحده؛ إلا أنه فوضها إلى الأمة جميعًا، وليس إلى فردٍ بعينه، ولو كان الخليفة أو هيئة عليا أيًّا كانت.

ويرى الدكتور عثمان خليل: أن الفقه الإسلامي لم يعتبر الوالي صاحب حق في السيادة، بل اعتبرها حقًّا للأمة وحدها، يمارسها الوالي كأجير أو وكيل عنها، ويعني هذا في جملته أن الأمة مصدر السلطات، وأن العلاقة بين الأمة والحاكم علاقة عقد اجتماعي، سمَّاه المسلمون (المبايعة) وجعلوه حقيقة لا افتراضًا، وهو الفهم الصحيح للسيادة في العصر الحديث.

ويرى الدكتور محمد كامل ليلة: "أن السيادة في الدولة الإسلامية تستند إلى إرادة الأمة التي تعمل في نطاق الشريعة الغراء، وتعتبر السيادة مسوغة ومشروعة على هذا الأساس، فإذا تجاوزت السادة نطاق أحكام الشريعة ولم تنسجم مع مصدرها وهو إرادة الأمة، فقدت أساس مشروعيتها".

ويرى الدكتور عبد الحميد متولي: "أن نظرية السيادة هي نظرية فرنسية نشأت في ظروف خاصة اقتضتها، وأصبحت الحاجة لا تدعو إليها الآن"، "فالله -سبحانه- هو الخالق، وهو حاكم الكون كله، ولا يأمر الله سبحانه إلا بالخير كله للإنسان والمجتمع الإنساني، ولا يمنع كونه -سبحانه- أن يكون حاكم الكون والخلق، أن يجعل في الأرض حكامًا ومحكومين، وهكذا كان خلقه لآدم وجعله خليفة في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)، و(يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص:26).

إن القول بالحكم بما أنزل الله لا يتنافى أبدًا مع قاعدة أن يحكم الناس أنفسهم بأنفسهم -في حدود ما حرمه الله ونهى عنه-، وأن يضعوا القواعد والقوانين والقرارات ما يسيرون به أمورهم" (انظر: "الديموكتاتورية"، د. علي الباز، ص 189-190 بتصرف).

هل ستنجح الديمقراطية في تحقيق الديمقراطية في بلادنا؟

هذا السؤال يترتب عليه عدة تساؤلات أخرى، ويحتاج إلى النظر الممعن في تجارب الآخرين في تطبيق الديمقراطية، وقبل ذلك التأمل الدقيق لتجربتنا الديمقراطية وإعادة للنظر فيها قبل استكمال مسيرتها في هذه الفترة الجديدة بعد ثورة 25 يناير 2011م، فلم نعد نملك رفاهية الوقوع في نفس الأخطاء، ولا يناسبنا -ونحن نعيد ترتيب أوراقنا- الغفلة عن حقائق نتجاهلها، بل يجب أن نشعر أجيالنا القادمة أننا استوعبنا -ولو شيئًا يسيرًا- مِن دروس الماضي القريب والبعيد، فلنفكر بصوتٍ مسموعٍ لنسمع مَن هم معنا، ولنشرك مَن يريد أن يشارك في صنع الخير معنا، ولنحفظ السفينة مِن الضياع أو الغرق أولًا، والوصول بها إلى شاطئ الأمان بعد ذلك ثانيا.

الغرب يريد لنا ديمقراطية تحفظ له مصالحه:

"رغم أن الدول الديمقراطية الغربية "الأوروبية والأمريكية" تشجع -كما هو معلوم- التحول نحو الديمقراطية في العالم النامي، فإنها تريدها ديمقراطية ذات مقاس خاص يناسب أهدافها، ويحفظ مصالحها، لا مصالح شعوب العالم النامي بالضرورة" (انظر: "صدمة الديمقراطية" تأليف الكاتب صلاح الدين حافظ، ط. مكتبة الأسرة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - ط. عام 2001م، ص 227).

ولعل غزو العراق بدعوى تحويله إلى الديمقراطية وتخليصه مِن الاستبداد وما ترتب عليه من فقد العراق لاستقلاله ونهب ثرواته، ونشر الفوضى العارمة فيه، ومعاناة شعبه المُرة في الداخل، وهروب الملايين مِن أبنائه إلى الخارج، ومقتل مئات الألوف من رجاله ونسائه خير دليل على ذلك.

والغرب يرى الفساد يترعرع في دول من العالم النامي باسم الديمقراطية، ويتغاضي عنه، بل قد يساند هذه الأنظمة الفاسدة ويدعمها، فإذا سئم منها انقلب عليها:

فمعظم نظم العالم النامي ديكتاتورية وتدعي الديمقراطية، وتتلقى المعونات والمساعدات المالية والعسكرية والفنية الأمريكية والغربية، وهي سلاح غربي محل اتهام دائمًا، يستفيد منه البلد المعني، ولكنه يلعب دورًا أساسيًّا في عملية الإفساد المنظم للشعوب الفقيرة مِن خلال الممارسات الفاسدة لتلك الأنظمة الديكتاتورية في التعامل مع تلك المعونات، إلى جانب أن الدول الغربية تستنزف جزءًا رئيسيًّا مِن هذه المعونات في غير مكانها لأتباع ومقربين مِن خلال شركات وتوكيلات وهمية يتم التغاضي عنها، بل تعود نسبة مِن هذه المعونات مباشرة للدول المانحة عن طريق الخبراء والوكلاء الغربيين، أو عن طريق إيداع أموال الحكام والمسئولين المسلوبة والمنهوبة في بنوك أوروبا وأمريكا، أي أن هذه المعونات تستنزفها نظم فاسدة وبتشجيع ضمني متعمد.

وهناك شركات ومؤسسات دولية عابرة للقارات تسيطر واقعيًّا على معظم أنشطة العالم الاقتصادية خاصة في البلدان النامية، وهي شركات ومؤسسات اقتصادها ليس اقتصادًا بحتًا وأمينًا، فمنه ما هو مغموس في الفساد ومتورط فيه بأشكالٍ وصورٍ مختلفةٍ.

وكم مِن فضائح رشوة وفساد تورطت فيها قيادات سياسية في نظم حكم -تدعي الديمقراطية وحكم الشعب- في دول نامية -قائمة أو راحلة- تمت عبر صفقات تجارية مشبوهة وعمولات مع الغرب في تجارة سلاح وتجارة مخدرات تفوق الخيال، ومعلوم أن صفقات السلاح تتدفق من الدول الصناعية الكبرى إلى الدول الصغيرة الفقيرة بصفقاتٍ هائلة الحجم ضخمة الثمن، عالية العمولة.

إن بقاء العرب خاصة والعالم الثالث عامة على ما هم عليه مِن تخلف واستبداد خير ضمان لمصالح الغرب.

ضرورة الإنصات للمعارضة وتوسيع دائرة الحوار السياسي:

"إن الاستقرار السياسي ضروري للإصلاح والاستقرار الاقتصادي، والإصلاح الاقتصادي ينبغي أن يأخذ في حسبانه العامل الاجتماعي"، والأزمة الاقتصادية المتصاعدة "أكبر مِن أن يواجهها فرد وحده، أو حزب بمفرده، أو حكومة وحيدة مهما كانت عبقريتها؛ فما بالك إذا كانت العبقرية أصلًا غائبة؟!"، "إن مواجهتها لم يعد ينفع فيها فكر رجل واحد أو حزب واحد وحكومة واحدة، إنما هي تحتاج لجهدٍ قومي يعيد صياغة المشروع الحلم، الأمل القومي في النهوض والارتقاء"، "ولن يتحقق ذلك إلا بإشراك كل القوى السياسية والاجتماعية، وإلا بتجنيد كل الطاقات الفكرية والعلمية داخل حوار قومي ديمقراطي مفتوح لكل الاجتهادات، يسقط الخلافات الشخصية، والعناد المتصلب، والحساسيات المذهبية والحزبية ضيقة الأفق، ضعيفة البصر والبصيرة" (انظر المصدر السابق، ص: 13، 33، 80).

"إن قواعد الديمقراطية والليبرالية تتطلب المشي على قدمين اثنين: الأغلبية والمعارضة، وإلا عرجت التجربة وأصابها الكساح" (انظر المصدر السابق، ص 37)، "وفي هذا الإطار يجب أن تؤخذ آراء ومواقف الأحزاب السياسية المختلفة في الحسبان، وأن توزن يشكل أدق، وبمقدار اجتهادها وثقلها في الشارع، وقدرتها على العمل، وتأثيرها في الرأي العام، حتى لا تصاب بالإحباط واليأس فالضمور، مهما كانت إسهامات أحزاب المعرضة في القضايا الرئيسية قليلة واجتهاداتها ضعيفة في نظر الفئة الحاكمة، فإن مراعاتها ضرورة سياسية لإحداث قدرٍ مِن التوازن في العملية الديمقراطية، فما بالك ومثل هذه الإسهامات كثيرة وإيجابية؟!" (المصدر السابق، ص 37 بتصرف).

"والأمر المؤكد أن سياسة تجاهل المعارضة، أي معارضة، ورفض كل ما يأتي عن طريقها -سواء كان سلبيًّا أو إيجابيًّا، وتعميم اتهامها بأنها لا تمارس إلا الإثارة، أو التشكيك في نواياها وبالتالي استبعادها عمليًّا، مع السماح لها رسميًّا في المشاركة السياسية، بل وتوسيع مضايقتها إداريًّا وأمنيًّا، قد ساهم في تعميق روح الصدام، حيث طفت على سطح المعارضة أصوات المتشددين الذين لا يرون أملًا في الحوار مع الحكومة ومؤيديها؛ لأنها سدت الطريق إلى الحوار، فوجب الانتقال إلى صدام أوسع وأعنف، وحين صعدت إلى مقدمة الحكومة ومؤيديها أصوات مقابلة تردد بلا ملل ضرورة تأديب المعارضة وتحجيم نشاطها وكسر أنفها" (المصدر السابق، ص 37 بتصرف).

لقد خذلت معظم الانتخابات في عهد مبارك الرأي العام، مِن خلال التزوير "فلم يعد السؤال المطروح هو: هل يجب علينا أن نذهب إلى صناديق الانتخابات؟ ولكن السؤال المطروح فعلًا وقولًا هو: هل إذا ذهبنا إلى صناديق انتخابات سنرى النتائج تعلن وفق ما قالته أصواتنا في الصناديق؟" (المصدر السابق، ص 165).

"لقد حكمت المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخابات مجلس الشعب المصري أكثر من مرة" (المصدر السابق، ص 31)، وأبطل القضاء مجلس الشعب أربع مرات فيما بين عامي: 1986م و2000 م (المصدر السابق، ص 170).

إن أغلبية الأحزاب بعد السماح بتكوين الأحزاب في مصر اكتسبت وجودها على الخريطة السياسية نتيجة أحكام قضائية، مثل: الوفد، والأمة، والخضر، ومصر الفتاة، والحزب الناصري، بينما نشأت الأحزاب الأربعة الأقدم: الحزب الوطني، والعمل، والأحرار، والتجمع طبقًا للقانون رقم 40 لسنة 1977م الخاص بتنظيم الأحزاب وتعديلاته (راجع المصدر السابق، ص 140).

واختفت في عهد مبارك بعض الأحزاب رسميًّا: كحزب العمل، وانقسم بعضها مِن الداخل، وانشغل بقضاياه: كحزب الوفد، وضيقت دائرة الحوار السياسي والعمل السياسي، فلم يسمح لغير الحزب الحاكم بالكلام أو العمل السياسي، وجاءت آخر الانتخابات في عهد مبارك في 2010م بإسكات كل المعارضة غير المستأنسة، وإبقاء قلة من المعارضة رآها النظام ضرورية للحفاظ على ديكور الديمقراطية في البلاد، ولعل ذلك كان من أسباب التعجيل بثورة 25 يناير 2011م.

"إن إهدار حق المعارضة إهدار لكل الممارسة الديمقراطية، فلا ديمقراطية دون الرأي والرأي الآخر، ولا برلمان دون أغلبية ومعارضة، ولا تقدم دون تنوع الآراء وتعدد الأفكار في مناخ حر"، "فقواعد الديمقراطية التي تأخذ برأي الأغلبية المؤيدة تفرض تسجيل اعتراض الأقلية المعارضة وحفظ حقها في الخلاف"، وحرمان الأقلية المعارضة مِن هذا الحق، والتضييق عليها، بل وإهدار حريتها أو كرامتها أو دمها يجعل البعض مِن المتشددين في المعارضة يقرر بالمثل إهدار حق الأغلبية أو يستبيح عرضها أو دمها!

لقد عانت دول العالم الثالث مِن ديكتاتورية نظم ديمقراطية كان سلاح الإهدار السياسي هو السائد فيها بين الأحزاب المتنافسة "عندما كانت الخطوة الأولى التي يتخذها الحزب فور وصوله للسلطة هي فصل جميع مناصري وأعضاء الحزب المنافس مِن الوظائف العامة، ليست عقابًا شخصيًّا لهؤلاء فحسب، لكنها في الأساس إجراء سياسي لحرمان الحزب المنافس مِن كل مراكز قوته وتأثيره في المسرح السياسي، وداخل السلطة التنفيذية، أي إهدار حقه بالكامل" (المصدر السابق، ص 109 - 110 بتصرف).

الفساد باسم الانفتاح الفساد باسم الديمقراطية:

من الصور الشائعة في النظم الديمقراطية محاولة أصحاب المال والأعمال رغم محدوديتهم الاحتماء داخل سراديب الأحزاب والتدثر بشعارات الديمقراطية حتى لا يقترب أحدٌ مِن مصالحهم، خاصة إذا صاروا أصحاب الصوت الأعلى داخل أحزابهم، خاصة حزب الأغلبية، بل قد يلعبون دورًا في الإيقاع بين نظام الحكم وأحزاب المعارضة، خاصة الأحزاب أسيرة الصفوة، وبالتالي إغراق الساحة السياسية في معارك هامشية، تتراجع معها القضايا الوطنية الرئيسية في سلم الأولويات، مع المزايدة على كل شيء (المصدر السابق، ص 45 بتصرف).

ولقد أساء البعض منا فهم الحرية، فأساء ممارسة الديمقراطية، و(للأسف الشديد سادت مفاهيم مغلوطة وقيم شاذة تارة: باسم الانفتاح، وتارة: باسم الديمقراطية، وكلاهما براء مما يزعمون؛ لأن تلازم التحول الاجتماعي بإفرازاته المتتالية مع الفهم المغلوط للحرية، في مجتمع مليء بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة قد شجع على سقوط قيم وأفكار: كالشرف والأمانة، والعمل الذهني واليدوي، وصعود قيم وأفكار مناقضة: كالسلب والنهب، والهبر السريع. وإذا بقياس الزمان الشائع هو الثراء ولو كان مجهول المصدر، وإذا بالنتيجة هي اتساع شريحة الأثرياء الجدد أصحاب الثروات المفاجئة على حساب اتساع قاعدة ملايين الفقراء".

"والثراء لا يعنينا، فليس في قلوبنا حقد اجتماعي، وإن كان الوضع يورث الحقد في نفوس كثيرٍ مِن البسطاء، ولكن الذي يعنينا ويعني كل وطني غيور حقًّا هو هذا الخلل الاجتماعي الذي أنشب مخالبه في المجتمع"، "حيث تعاونت الثروة مع الانحراف، والإسراف السفيه، مع هبوط المستوى الثقافي والتعليمي، وتراجع دور التربية ليس فقط في المدارس والمعاهد والجامعات ولكن في الأسرة، الخلية الأولى لبناء المجتمع" (المصدر السابق، ص 57 - 59 بتصرف).

وامتد الأمر إلى الإعلام بوسائله المختلفة وتأثيره الواسع فصار "يدور حول العنف والجنس والمال والجريمة، في مجتمع يعاني من الفقر والديون، ووجع المعاناة" (انظر المصدر السابق، ص 52).

"إن النماذج التي تقدمها أفلام التليفزيون والسينما والفيديو، نماذج شاذة وغير متوافقة مع البيئة المصرية، لكن ملايين الأسر أمام المسلسلات والأفلام المحلية والمستوردة تأثرت بها ووقعت أسيرة الزيف التي تروج لها، في غياب تربية اجتماعية رشيدة، فكل زوجة خائنة، وكل زوج له عشيقة، وكل رجل له حياة خفية، وكل ابن يتناول الممنوعات في المدرسة أو النادي، وكم مِن أسرة انهارت وبيوت دُمِّرت بسبب المحاكاة الزائفة والتقليد الأعمى، والأثر المنحرف لنماذج فنية تستغل شكل الديمقراطية والحرية دون مضمونها الحقيقي!" (المصدر السابق، ص 59 بتصرف).

إن "الكل يعلم أن الدول الموغلة في الرأسمالية لم تعد تطبِّق تلك النظريات التي حفظها دعاة اليمين المصري، وكذلك فإن الدول الاشتراكية -وفي طليعتها: الصين وروسيا- لم تعد تطبِّق النظريات الماركسية بحذافيرها كما لا يزال بعض دعاة اليسار المصري المتحجرين! لقد فرضت ظروف الحياة وفرض تطورها المعقد إدخال تعديلات جوهرية على النظريات السياسية وفلسفات الحكم؛ سواء في الدول الرأسمالية أو في الدول الشيوعية، فأصبحت النظريات في خدمة تطور المجتمع ومواكبة حاجياته، وليس العكس كما كان يحدث في الماضي حيث كانت المجتمعات في خدمة النظريات" (المصدر السابق، ص 62 بتصرف).