الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 02 يوليه 2019 - 29 شوال 1440هـ

عِبَر من قصص الأنبياء (39)

كتبه/ أسامة شحادة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام-:

تُعدّ قصة عيسى -عليه الصلاة والسلام- مِن القصص التي فصّل فيها القرآن الكريم وتكررت كثيرًا، بل هناك سورة كاملة باسم والدة عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وهي سورة مريم، وهي السورة الوحيدة التي سُمّيت باسم امرأة، بل مريم هي المرأة الوحيدة التي ذُكر اسمها في القرآن الكريم، تكريمًا لها وتشريفًا، ونفي طعن وشتم اليهود لها، وبيان أنها طاهرة مبجلة لم تتدنس بِشر، بل كانت امرأة صالحة لها كرامات ربانية كرزقها المتنوع وجريان الماء وإثمار الرطب لها عند ولاة عيسى -عليه الصلاة والسلام-، ومريم هي سليلة عائلة مؤمنة شريفة، فوالدها عمران وأمها وأخوها هارون وأختها زوجة زكريا -عليه الصلاة والسلام- مِن الصالحين.

وفي قصة ولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام- الكثير من العِبر والعظات للمؤمنين سنقف مع بعضها في النقاط الآتية:

لقد بشّرت الملائكةُ مريم بولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام- مرتين وجاءتها على هيئة رجالٍ في المرتين: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45)، ثم لما حان وقت تحقيق البشرى (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) (مريم:17)، وبرغم أن المبشر هنا مريم، وهي امرأة؛ إلا أن الملائكة وجبريل في المرة الثانية جاء على هيئة رجل لإبطال مزاعم المشركين مِن كون الملائكة إناثًا، وفي هذا دلالة وإرشاد للدعاة والعلماء لتوظيف القصة والحكاية في الدعوة والتعليم لبث العقائد وترسيخ المفاهيم وأن ذلك محبب للنفوس؛ ولذلك كان حجم القصص في القرآن الكريم كبيرًا سواء قصص الأنبياء أو الأمم السابقة أو الأحداث المهمة.

ورغم ما جرى في ولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام- مِن معجزات بكونه من أم بغير أب، حيث خُلق بعد أن نَفخ جبريل -عليه الصلاة والسلام- في مريم من روح الله -عز وجل- فحملت مريم به -على خلاف بين علماء التفسير هل كان حمل مريم  طبيعيًّا أتم تسعة شهور أم كان حملًا سريعًا لم يتعد ساعات- ثم وُلد عيسى -عليه الصلاة والسلام- ولادة طبيعية كعادة النساء (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم:23)، مما ينفي ألوهية عيسى -عليه الصلاة والسلام- ويثبت بشريته، ومِن معجزات مولده كلامه في المهد مع أمه (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:24)، ثم مع قومه: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (مريم:30).

وبرغم معجزة ولادة عيسى -عليه الصلاة والسلام- إلا أنه طلب مِن أمه النفساء المتعبة هزّ جذع النخلة لتساقط عليها الرطب! مما يرشد المؤمنين لأهمية التوكل على الله -عز وجل- والخضوع لأمره مع بذل الجهد والسبب بقدر الوسع والطاقة.

واليوم، وأمة الإسلام تجابه الكثير مِن التحديات فليس لها إلا صدق اللجوء لله -عز وجل- مع بذل ما يمكنها مِن أسباب، ومَن راقب ما يتحقق للمسلمين مِن خير في حاضرنا بفضل الله -عز وجل- مع قلة الأسباب التي يبذلونها سيدرك عظم البركة الربانية للجهود المخلصة ولو كانت ضعيفة، ومِن آخر تلك الأمثلة: إسلام المئات عقب الهجوم الإرهابي الإجرامي على مسجدي نيوزلندا.

ونختم بعبرة بليغة من قصة مولد المسيح -عليه الصلاة والسلام- فقد كربت مريم كربًا شديدًا وقت المخاض حتى إنها قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (مريم:23)، ولكن حين اطمأنت نفس مريم لاصطفاء الله -عز وجل- لها: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42)، بمعجزة ولادة ابنها مِن غير أب وكلامه معها، واستعادت قوتها بعد معجزة إجراء الماء وإنضاج الرطب لها، فعند ذلك توكلت على الله -عز وجل-: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) (مريم:27)، فقد أدركت أنها تقوم بمهمة عظيمة بأمرٍ مِن الله -عز وجل-.

وعلى شباب الإسلام اليوم التأسي بمريم الطاهرة بالثبات على أمر الله -عز وجل-، وحمله للعالمين بكل شجاعة وقوة، وتحمُّل طعن الطاعنين وخذلان الخاذلين والصبر على أذاهم طالما قام اليقين على أن هذا الأمر هو الحق المبين.