الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 02 يونيو 2019 - 28 رمضان 1440هـ

مناقشات في زكاة الفطر (إخراج القيمة - إخراج المكرونة)

كتبه/ عبد المنعم الشحات  

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تمهيد:

نتناول في هذه المقالة بعض المسائل الخلافية المتعلقة بزكاة الفطر، كمسألة: جواز إخراج القيمة -وهي مسألة تتعلق بكل أنواع الزكوات-، ومسألة إخراج المكرونة -لا سيما عند مَن يقول بعدم إجزاء القيمة-، وهما مِن مسائل الخلاف السائغ.

والناس في زماننا في هذه المسائل الخلافية بيْن طرفين ووسط:

الطرف الأول: يجعل كل مسائل الخلاف مسائل ولاء وبراء، ولا يفرِّق بيْن مسائل الخلاف السائغ وغير السائغ!

والطرف الثاني: فريق يرفع شعار: "لا إنكار في مسائل الخلاف"، وهو شعار صحيح، ولكن مَن أطلقه مِن السلف هم مَن ألَّفوا المصنفات؛ كلٌّ يبيِّن ما ترجح له في فهم الأدلة في تفاصيل المسائل، ويتناول المذاهب الأخرى بالنقد والتحليل؛ مما ترك للأمة ثروة فقهية كبيرة.

ومنه نعلم أن نفي الإنكار في مسائل الخلاف إنما يعنون به:

أولًا: مسائل الخلاف السائغ دون الأقوال الشاذة التي بدَّع السف مَن قال بها، مثل: بدع الخوارج، والمعتزلة، وغيرهما.

ثانيًا: أنهم يعنون بترك الإنكار في مسائل الخلاف، عدم التبديع أو التفسيق أو التعنيف، وأما اجتهاد المسلم في إصابة الحق كلٌّ بحسبه -المجتهد بالنظر في الأدلة، وطالب العلم بالموازنة بيْن حجج المجتهدين، والعامي في سؤال مَن يثق بدينه وعلمه-؛ فلا يُمنع منه في مسائل الخلاف السائغ، بل إن هذا الاجتهاد عبودية في حد ذاته.

ويدل على ذلك: عمل الأمة منذ عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا مِن تدارس مسائل الخلاف والمناظرة فيها، والحرص على أن يحقق كل فرد أقصى درجة مِن عبودية الاتباع، وبذل الوسع في إصابة الحق، وكان هذا عندهم أهم مِن تفاصيل الأقوال ذاتها، وتحقيق هذه العبودية مع استيعاب مَن يترجح لديه أقوال أخرى هو الوسط والاعتدال.

بيد أن هناك فريقًا أكثر تطرفًا: وهم مَن يستحسن قولًا وهو يعلم أن الأدلة لا تَشهد له فيرفع شعار: "لا إنكار في مسائل الخلاف" مِن باب التهرب مِن مناقشة المسألة مِن جهة الدليل، ثم إذا به فجأة يقلب القول الذي استحسنه إلى قولٍ واحدٍ ملزم للجميع!

وهذا نجده في بعض مَن يتبنى القول بجواز إخراج القيمة في الزكاة -وهو قول يقول به بعض أهل العلم-، ولكن بعض القائلين به يبدأ بضرورة فهم أن ثمة خلاف في المسألة ثم يُثنِّي بالسخرية مِن القول بعدم إجزاء القيمة في الزكاة مع أنه مذهب الجمهور، وظاهر الأدلة! حتى وإن كان بعض الأئمة يرى أن ثمة أدلة أخرى توسِّع مدلول هذه الأدلة وتبيِّن -مِن وجهة نظر هؤلاء الأئمة- أن العبرة إيصال مال -مِن أي جنس كان- إلى الفقير.

ورغم أن المسألة مِن المسائل المشهورة التي نجدها في مظانها مِن كتب الفقه بسهولة "فضلًا عن المؤلفات الخاصة التي عنيت بها"؛ إلا أننا نحاول في هذه المقالة أن نرتب الحديث عليها بطريقةٍ تقربها -بإذن الله- إلى ذهن القارئ، مع إلقاء الضوء على مسألة لم تكن تأخذ حظًّا كبيرًا مِن البيان، وهي: "مسألة إخراج المكرونة في زكاة الفطر"، وذلك أنه في ظل ارتفاع سعر الأرز عن معدله المعتاد أصبح هناك شريحة كبيرة مِن الناس لا تطيق إخراج الأرز، وبالتالي تفضِّل إخراج الدقيق، وحيث إن المكرونة دقيق مُصنع ونفعها في المدن أكثر مِن القمح والدقيق؛ مما دفع كثيرًا ممَن يعمل بإخراج زكاة الفطر طعامًا أن يدرج المكرونة ضمن البدائل التي يمكن إخراجها في زكاة الفطر؛ لذلك احتيج إلى درجة مِن تسليط الضوء على هذه المسألة.

هل يجزئ إخراج القيمة في الزكاة؟

هذه المسألة تطرح في زكاة المال وفي زكاة الفطر، كما تطرح في الكفارات التي فيها إطعام، وإن كانت مشهورة في زكاة الفطر أكثر؛ لزيادة معنى في زكاة الفطر يعضد مذهب المانعين من اخراجها قيمة، وهي: "أنها سُميت زكاة الفطر مِن رمضان"، فأضيفتْ إلى الفطر، وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها "طعمة" للمساكين؛ إلا أن مِن المهم فهم أن المسألة أعم مِن هذا، وبالتالي فالبحث فيها عن الأدلة المتعلقة بكل صورها.

وعمومًا يمكن أن نقول إن للعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:

الأول: المنع مطلقًا، وهو مذهب المالكية والشافعية، ويُنسب للإمام أحمد، وينسب إليه أنه يجوِّز دفع القيمة للمصلحة.

الثاني: الجواز مطلقًا، وهو قول الحنفية، وقول عمر بن عبد العزيز مِن التابعين.

الثالث: الأصل عدم جواز القيمة، ولكن تجوز للحاجة، وبه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وينسبه إلى الإمام أحمد.

وإذا أردنا أن نرتب البحث في المسألة فيمكن ترتيبها على هذا النحو:

1- اتفق العلماء على أن الشرع قد فَرض الزكوات، وفرض كل زكاة مِن عين المال أو مِن جنسه؛ فزكاة الأنعام: أنعام، وزكاة الزروع: زروع، وزكاة النقود: نقود.

2- لا يخرج عن الأصل السابق زكاة عروض التجارة حتى مع القول بجواز إخراجها مِن النقود أو مِن العروض (البضائع)؛ لأن مال التجارة يتحول في أثناء الحول ما بيْن النقد والعرض، ولأنه حتى لو اصطلح على تسمية هذا الإذن قيمة؛ فهي قيمة مخصوصة في مسألة مخصوصة (وأمكن تعليلها بالعلة السالفة الذكر).

3- زكاة الفطر ليستْ مترتبة على مال معين، وإنما شكر نعمة الصوم والفطر، لكنها تشبه زكاة المال في أن الشرع حصرها في أصنافٍ محددةٍ، وبيَّن أن العلة منها أن تكون طعمة للمساكين كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ، طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ " (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني)؛ ولذلك لم يخالِف أحدٌ مِن السلف أو الخلف في إجزاء الطعام.

4- اعتبر العلماء "عدا الظاهرية" أن الأصناف المعددة في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا نُعْطِيهَا في زَمَانِ النبي -صلى الله عليه وسلم- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ" (رواه البخاري)، وغيره مِن الأحاديث: أنها مِن باب الخطاب الخاص بالمخاطبين حينها، وأن الأصل هو قوله: "صَاعًا مِنْ طَعَامٍ"، وما بعده تفسير له بالأغلب في زمنه؛ بيد أن تعداد هذه الأصناف استفاد منه أهل العلم تقييد الطعام الذي يجزئ إخراجه في زكاة الفطر بما يُدخر ويعده الناس قوتًا أساسيًّا، وليس مطلق الطعام، وإن كان بعض أهل العلم قد ضيَّق الأمر أكثر مِن هذا؛ فاشترط أن تكون الزكاة مِن الحب أو الثمر المدخرين (يظهر الفرق بيْن القولين: في البلاد التي تستغني عن الحب تمامًا بغيره، كما في بلاد الإسكيمو -مثلًا- حيث يحل السمك عندهم محل القمح والأرز عند غيرهم، وعلى القول بأن ما صار قوتًا يصح إخراج الزكاة منه؛ فيصح في هذه البلاد إخراج السمك في زكاة الفطر، وعلى القول الآخر لا يصح).

فائدة: مِن هنا يُعلم أن إخراج اللحم أو الدجاج أو الزيت أو السمن أو غيره في زكاة الفطر في البلاد التي تعتمد على الحبوب لا يجوز إلا على مذهب مَن يجوِّز القيمة.

5- ومِن العرض السابق يتبين: أنه لا يجوز أن يَحتج مَن يقول بجواز القيمة على الجمهور الرافضين القائلين بعدم الجواز أنه إذا أدخلتم الأرز وغيره مِن الحبوب غير المنصوص عليها؛ فأدخلوا الدرهم والدينار؛ لما سبق بيانه مِن سبب توسع العلماء في إدراج أصناف غير التي ذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بناءً على أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكرها على سبيل المثال لا الحصر.

ويؤكِّد هذا: أن القائلين بالقيمة ينهجون نفس النهج في الأصناف التي تُؤخذ منها زكاة الحبوب والثمار، بل توسع بعضهم أكثر في أن الأصل عموم قوله -تعالى-: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام:141)، فقالوا بوجوب الزكاة في كل أنواع الحب والثمر المدخر، كما قال الجمهور، بل وزاد الحنفية: القول بوجوب الزكاة في الخضر والفاكهة.

6- فيتبين مما سبق: أن زكاة الفطر لحقت بزكاة المال في كون أن الشرع حصرها ابتداءً في أجناسٍ معينةٍ، فكما أن زكاة كل نوع مِن أنواع الأموال تُخرج مِن جنسه؛ فزكاة الفطر تخرج مِن جنس القوت، أو بصورةٍ أخص -في قول بعض أهل العلم-: "الحب والثمر المدخر".

7- وبعد أن تقرر ما سبق: يبقى السؤال حول "زكاة المال، وزكاة الفطر": هل يجوز للمتصدق أن يعدل عن المنصوص إلى ما يعادل قيمته نقدًا كان أو غير نقد، كأن يخرج النقود في زكاة الفطر أو يخرجها في زكاة الزروع، أو يجب عليه بقر فيخرج عوضًا عنه غنمًا يساويه في القيمة، وهكذا... ؟ أم أن هذا الامر غير جائز؟ أم أن الأصل فيه المنع، ويباح للحاجة؟  

وللإجابة عن هذا السؤال نبحث عن الأدلة المحتملة على النحو التالي:

8- هل يوجد دليل عام في باب الزكاة ككل يدل على أنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة؟

الجمهور على أنه لا يوجد مثل هذا الدليل، وبعض مَن يجوز القيمة يحتج بصفةٍ عامةٍ بقوله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (التوبة:103)، وهو ليس صريحًا في المسألة كما هو ظاهر، بل الصحيح أنه لا دلالة البتة، بل هو مِن المجمل المبيَّن بغيره مِن الأدلة -كما سيأتي بيانه إن شاء الله-.

وأما في زكاة الفطر: فقد احتج القائلون بالقيمة بما ورد مِن روايات تغاير بيْن القمح وغيره مِن الأصناف، فتجعل أن المقبول منه نصف صاع، ومِن أجود هذه الراويات ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه‏،‏ عن جده: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ مُنَادِيًا فِي فِجَاجِ مَكَّةَ: أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ سِوَاهُ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ" (رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب، وضعفه الألباني).

ورغم أن الجمهور لهم مناقشات على دلالة هذا الحديث -على فرض صحته-؛ إلا أنه بالفعل لو صح لكان حجة قوية، وسيكون تأويله حينها أن كل هذه الأصناف كانت متقاربة القيمة بينما كان القمح على الضعف مِن ذلك، ويكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اعتبر القيمة، فجعل مقدار زكاة الفرد نصف صاع مِن القمح أو صاع مما عداه.

ولكن هذا لا يستقيم لسببين:

الأول: أن كل هذه الروايات لا تخلو مِن مقالٍ.

الثاني: معارضة هذا للصحيح الثابت مِن حديث أبي سعيد الخدري‏,‏ قال‏:‏ "كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ المَدِينَةَ، فَتَكَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ إِنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، قَالَ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: "فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ" (رواه مسلم والترمذي واللفظ له)؛ فدل على أن القول بأن نصف صاع مِن قمح يعادل صاع مما سواه هو رأي رآه معاوية -رضي الله عنه-، وعرضه على الناس على أنه رأي منه، وأن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- ردَّ عليه ذلك، ولو كان مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما احتاج معاوية -رضي الله عنه- إلى أن يقدمه في صورة الرأي، ولما رده عليه أبو سعيد -رضي الله عنه-.

ولسنا في حاجة إلى تكلف جمع بيْن الأثرين، وأحدهما صحيح والآخر ضعيف، وقد حاول الشيخ الغماري كعادته في تصحيح ما يشهد لمذهبه بشتى الطرق، وغفل أن هذه الآثار ليست فقط ضعيفة، بل ومخالفة للآثار الصحيحة الثابتة.

9- هل يوجد دليل على أنه وقع في عصر النبوة أو في زمن الصحابة قضية واشتهرت لتصلح أن تكون دليلًا تشريعيًّا؟!

لعل الإمام البخاري قد جمع ما يحتج به القائلون في القيمة، فقال في "صحيحه":

"بَابُ العَرْضِ فِي الزَّكَاةِ:

وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِأَهْلِ اليَمَنِ: "ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ -أَوْ لَبِيسٍ- فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ"، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا، وَلَمْ يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ مِنَ العُرُوضِ".

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ، أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ المُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ" (صحيح البخاري).

وقد أجاب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- على بعض هذه الأدلة في فتح الباري فليراجع.   

ونلخِّص الرد عليها مستفادًا مِن كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وغيره مِن العلماء في النقاط الآتية:

إن أثر معاذ -رضي الله عنه- منقطع؛ فإن طاوس لم يسمع مِن معاذ، وقد علَّقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح عنده عن طاوس، ولكن يبقى البحث فيما بعد طاوس، وتبين انقطاعه، وإذا تبين ضعف الأثر فلا حاجة في البحث عن دلالته؛ لا سيما إذا خالف الحديث الصحيح الذي يبيِّن أن فعل الصحابة في زكاة الفطر خاصة، كان إخراج الطعام كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا نُعْطِيهَا في زَمَانِ النبي -صلى الله عليه وسلم- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ وَجَاءَتِ السَّمْرَاءُ قَالَ أُرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ".

وأما مِن جهة الدلالة: فبعض أهل العلم يحمل الصدقة هنا على الجزية بناءً على أن رواية أخرى قد ذكرت أن هذا في الجزية، وبعض أهل العلم يحمله على أنه اجتهاد خاص مِن معاذ -رضي الله عنه-، وكل هذه الردود لا حاجة لها إذا كان الأثر ضعيف السند ومخالفًا لما هو أصح منه في ذات الوقت، ولو كان السند صحيحًا ربما اعتبر هذا الأثر مِن أقوى حجج القائلين بالقيمة.

تنبيه: ما يُقال عن أثر معاذ -رضي الله عنه- يُقال مِن باب أولى على أثر أبي إسحاق السبيعي: "أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام"، فهو غير ثابت سندًا، ومخالف لأثر أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه؛ فضلًا عن عدم القطع بمَن هؤلاء الذين "أدركهم يفعلون هذا" (على فرض صحة السند) بخلاف أثر أبي سعيد؛ فهو مِن كبار الصحابة، وقوله هذا لابد وأنه حكاية عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عصر الصحابة -على أقل تقدير-.

- وأما ما جاء في جواز أخذ سن غير السن الواجب مع تعويض هذا بعشرين درهم أو شاتين؛ فهو حجة لمذهب الجمهور؛ إذ إنه لم يبح هذا إلا للحاجة -وهي عدم امتلاك المتصدق للسن الواجبة عليه-، ثم إنها لم يُعدل عنها إلى القيمة، بل إلى أقرب شيء للواجب -ناقة تقارب التي وجبت عليه في السن-، ثم حتى لم يترك تقدير فرق بين الواجبة والبديلة إلى القيمة السوقية، وإنما قدره بتقدير تعبدي ثابت.

10- ألا يمكن أن يُقال: إن القيمة وإن لم يكن منصوص عليها؛ فهي في معنى المنصوص عليه، وبالتالي لا يحتاج القول بإجزائها إلى دليلٍ مستقل؟

بعض مَن يجوز القيمة يحتج بقوله -تعالى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)، ويرى أن هذا يدل على أن الأصل مواساة الفقير وفقط، وهي تحصل بإخراج المنصوص عليه كما تحصل بالقيمة.

ولا يخفى ما في هذا الاستدلال مِن بُعد، وفتح أبواب شرٍّ ربما تصل إلى إهدار فقه باب الزكاة برمته (وبالفعل توجد مؤلفات لبعض متطرفي تيار ما يسمَّى الإسلام العصري تصل إلى إلغاء كل الأنصبة والمقادير في الزكاة؛ انطلاقًا مِن هذه القاعدة!)، فثمة اتفاق على أن هذه الآية مجملة مثل قوله -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (البقرة:43)، وأن الأمر المجمل بإيجاب الصلاة والزكاة قد أتى تفصيله في نصوص أخرى، وبالتالي لا يجوز التمسك بهذا المجمل وإهمال التفصيل؛ وإلا لجاز مثل هذا في الصلاة أيضًا!  

وأما الزعم بأن القيمة تؤدي الغرض؛ فهو مبني على مَن لا يرى في الزكاة إلا جانب حق العباد، والصحيح أن معنى التعبد فيها ظاهر، فهي مما يجتمع فيه المعنيان، وبالتالي فالأصل فيها التوقيف؛ إلا إننا إن تجارينا مع التوجه الذي يميل إلى تغليب جانب المعاملة فيها فسوف نصطدم بأن الزكاة حق مقدر، لكنه لمستحقين متعددين يجوز أن يدفع إلى أي منهم، وبالتالي فإجراء أي مقايضة على هذا الحق لاستبداله غيره به هو نوع مِن التصرف في مال الغير بغير إذنه.

وهذا معنى لم يقف عنده كثير ممَن قال بالقيمة؛ مراعاة لمصلحة الفقير، فإن مِن آكد مصالحه أن يُحترم حقه المعلوم في مال الأغنياء، وأن يعلم في أنه حق وليس منحة، وأنه لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن صاحبه.

10- يتفرع على التعليل في الجزئية السابقة أن مَن يقول بقول الجمهور بعدم إجزاء القيمة يحتاج أيضًا إلى نظرة أكثر روية في ثلاث مسائل:

الأولى: ماذا لو دعت الحاجة إلى إخراجها قيمة؟

الثانية: ماذا لو كان المتصدق يخرج زكاته بنفسه وعزم على أن يدفعها لفقير معين فعلم مِن حاله أن هناك بدلًا هو أنفع له، سواء كان نقودًا أو غيرها؟!

الثالثة: ما حكم أن يخرج المنصوص عليه، ولكن يعمل فيه عملًا، كأن يخرج صاع القمح مطحونًا أي يخرج الدقيق أو يخبز صاع الدقيق، ومِن أمثله في زماننا: إخراج صاع دقيق مصنع على هيئة مكرونة؟

وسوف نعالج كل واحدة مِن هذه المسائل الثلاث في النقاط الآتية:

11- ماذا لو دعتِ الحاجة إلى إخراج قيمة الزكاة بدلًا مِن المنصوص عليه (لا سيما في زكاة الفطر) أو طلب الفقير المعين مِن متصدقٍ عليه القيمة؟

يحتج بعض مَن يقول بالقيم في الزكاة عمومًا "وفي زكاة الفطر خصوصًا" بأن الحاجة قد دعت إلى هذا، وكثير ممَن يتكلم في المسألة يكون الراجح عنده حتى بدون الحاجة هو القول بالقيمة؛ ولذلك فالأوفق أن تبحث المسألة مِن حيث الحكم المجرد دون النظر إلى ما يُدَّعى مِن حاجات مستحدثة.

فإن انتهى الباحث إلى القول بجواز القيمة؛ لزمه أن يأتينا بالدليل على هذا، ولا بأس أن يضيف إلى هذا دليل المصلحة الطارئة مِن وجهة نظره، وأما إذا كانت الأدلة تبيِّن عدم جواز القيمة، ومِن ثَمَّ صارت المصلحة المدعاة هنا هي المناط الجوهري الذي يعولون عليه -الانتقال مِن الأصل الثابت إلى القيمة-، فتلك المصلحة يجب أن تُناقش هنا مناقشة علمية دقيقة.

ومِن أهم ما يجب مراعاته في ذلك: عدم التعليل بحاجاتٍ كانت موجودة في زمن التشريع ولم يعتبرها الشرع -بل نص على الطعام-؛ لأن هذه المصالح في هذه الحالة ستكون مِن باب المصالح الملغاة.

وهذا كمَن يقول: إن حاجة الفقير إلى النقود أعلى؛ لكونها مما يخف حملها ويسهل صرفها في أوجهٍ عديدةٍ -كالطعام وغيره-، فيُقال: إن الشرع مع وجود الدراهم والدنانير وشيوع التعامل بها عدل عنها إلى النص على الطعام، وأكَّد هذا ببيان أن الغرض مِن هذه الزكاة أنها "طعمة للمساكين".

وفي زكاة الأموال أيضًا: فإن للشرع حكمه في أن يواسَى الاغنياء الفقراء مِن جنس الأموال التي يتداولها الأغنياء، فإن كانوا أهل نقود جاءته نقود، وإن كانوا أهل زروع جاءته مِن زروعهم، وإن كانوا أهل أنعام جاءته مِن أنعامهم، وإن كانوا أهل تجارة جاءته مِن تجارتهم.

الحاصل: أن هذه الحجة التي يرددها معظم مَن يتكلم في هذه المسألة لا يحتاج مَن يقول بجواز القيمة ابتداءً إليها، ولا تصلح حاجة تبيح العدول عن المنصوص عند مَن لا يرون جواز إخراج القيمة؛ لكونها ليست حاجة طارئة عمت بها البلوى أو مصلحة استحدثت يراد البحث في اعتبارها.

وهذا ما انتبه إليه كثير ممَن يدلى بتلك الحجة، وبالتالي يضيفون إليهم معلومة تاريخية لا يسعفهم عليها التاريخ، ولا نصوص الشرع، وهي أن الأغلب في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت المقايضة، وبالتالي لم يرشد إلى الدراهم والدنانير.

والصحيح: أن التعامل بالدراهم والدنانير كان شائعًا معلومًا، وأن الشرع أمر بتوسيعه أكثر حينما ضيَّق نطاق المقايضة، ووضع عليها قيودًا في الأصناف الربوية، وجعل المخرج للناس هو أن يحولوا عملية المقايضة إلى عمليتي بيع بالدراهم والدنانير.

ورغم أن معظم مَن يقول بجواز القيمة مِن المعاصرين هم ممَن ينشغلون -جزاهم الله خيرًا- بالدفاع عن كمال الشريعة وحسنها أمام شبهات المستشرقين وأذنابهم؛ إلا أنهم يساهمون بمثل هذه التعليلات دون أن يدروا في إعطاء صورة سلبية عن حجم النضج البشري في التعاملات في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبالتالي صلاحية الشريعة التي أتى بها في أن تحكم التعاملات التي استحدثها الناس بعد (في زعم المستشرقين).  

والصحيح: أن الله قدَّر أن تكون بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- ومعه الشريعة العامة الشاملة الخاتمة في توقيت استقرت فيه المجتمعات البشرية بدرجةٍ كبيرةٍ، وأصبحت مهيأة لأن تتلقى ضوابط الشرعية للمعاملات في كل الأبواب.

فإذا اتفقنا أنه لا مجال هنا لبحث شيء كان موجودًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- على أنه حاجة طارئة نريد أن نبحث مدى صلاحيتها لأن تكون سببًا للاستثناء مِن أصل الحكم، فسوف تضيق الفجوة أو تتلاشى بيْن مَن يقول بعدم جواز القيمة مطلقًا ومَن يقول بجوازها للحاجة؛ ولذلك روي هذا وذاك عن الإمام أحمد، ومال شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن التفصيل في المسألة أن الإمام أحمد يبيح إخراج القيمة عند الحاجة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما في "مجموع الفتاوى" (25/ 82): "وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة، ونحو ذلك، فالمعروف مِن مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز، وعند أبي حنيفة يجوز، وأحمد رحمه الله قد منع القيمة في مواضع، وجوزها في مواضع، فمِن أصحابه مَن أقر النص، ومنهم مَن جعلها على روايتين. والأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجةٍ ولا مصلحةٍ راجحةٍ ممنوع منه... " إلى أن قال -رحمه الله-: "وأما إخراج القيمة للحاجة، أو المصلحة، أو العدل؛ فلا بأس به، مثل: أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك... ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها" (انتهى).

وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "ويجوز أيضًا أن يخرج عن النقود عروضًا مِن الأقمشة والأطعمة وغيرها، إذا رأى المصلحة لأهل الزكاة في ذلك مع اعتبار القيمة، مثل أن يكون الفقير مجنونًا أو ضعيف العقل أو سفيهًا أو قاصرًا، فيخشى أن يتلاعب بالنقود، وتكون المصلحة له في إعطائه طعامًا أو لباسًا ينتفع به مِن زكاة النقود بقدر القيمة الواجبة، وهذا كله في أصح أقوال أهل العلم" (انتهى مِن "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (14/ 253).

12- حكم إخراج الدقيق والخبز والمكرونة:

وهذه مسائل احتاج الجمهور القائلون بعدم جواز القيمة إلى بحثها، وحيث إن الجمهور راعوا في الزكاة أمرين سبق بيانهما مرارًا:

- التعبد بما شرعه الله.

- عدم انتقاص حق الفقير في الحق الذي قدَّره الله له، وبالتالي عدم جواز التصرف فيه مِن قِبَل المزكي.

وحيث إن تحويل صاع القمح الى دقيق أو خبز أو مكرونة يحقق مبدأ إخراج الطعام المطلوب -وهو صاع القمح-، ولكن مع إضافة عملٍ فيه مِن طحن أو خبز أو تصنيع، فبالتالي كانت جلّ مناقشات أهل العلم في هذه الأصناف على أثر العمل الزائد في صاع القمح: هل سلبه بعض منافعه أم أبقى على منافعه كاملة؟

- فبالنسبة للدقيق: منع منه البعض باعتبار أنه بطحنه قد فاتت بعض استخداماته التي تتطلب أن يكون حبًّا كما هو، وجوزه البعض مِن باب أن غالب استعمال القمح هو في صنع الدقيق فيكون اخراج دقيق يعادل الدقيق الناشئ من طحن صاع قمح نفع للفقير من كل وجه وأكثر منه لو أخرج صاع دقيق ابتداءً؛ لأنه سيزيد في المقدار شيئًا يسيرًا عن إخراج الدقيق المكافئ لصاع قمح.

والمتأمل في تعليل مَن رفض القول بجواز الدقيق يجزم أن هذه علة رفض من رفض الدقيق لا تكاد توجد في زماننا في معظم بلاد المسلمين حيث انحصر استعمال القمح كقوتٍ في طحنه ثم خبزه، وأما سائر استعمالاته فلا تدخل في معنى القوت، وبالتالي فالعمل -بفضل الله- جاري منذ سنوات على إخراج الدقيق في زكاة الفطر.

- أما الخبز فالعمل المضاف فيه إلى القمح أكثر وهو الطحن ثم الخبز؛ إلا أن مَن منع مِن الدقيق منع مِن الخبز مِن باب أولى، ولكن المانعين مِن الخبز أضافوا علة أخرى إلى المنع، وهي: أن الخبز قد فوت منفعة كبيرة مِن الدقيق، وهو إمكان حفظه لفترة طويلة، وهو أمر يجب أن ينظر إليه بعين الاعتبار.

- وأما "المكرونة" فقد تعرض الشيخ العثيمين -رحمه الله- مِن المعاصرين لحكمها، فقال في شرح الزاد:

"هل تجزئ المكرونة في زكاة الفطر؟

الجواب: مَن قال: إن الخبز يجزئ، فالمكرونة عند صاحب هذا الرأي تجزئ أيضًا. ومَن قال: لا يجزئ الخبز؛ لأن الخبز أثرت عليه النار، فإن المكرونة إذا أثرت عليها النار في تصنيعها فإنها لا تجزئ كذلك، ولو أن إلحاق المكرونة بالخبز مِن كل وجه فيه نظر؛ ولهذا نرى أن إخراج المكرونة يجزئ ما دامت قوتًا للناس ليستْ كالخبز مِن كل وجه، وتعتبر بالكيل إذا كانت صغيرة مثل الأرز، أما إذا كانت كبيرة فتعتبر بالوزن، والصحيح أن كل ما كان قوتًا مِن حبٍّ وثمر ولحم ونحوها؛ فهو مجزئ سواء عدم الخمسة، أو لم يعدمها؛ لحديث أبي سعيد: وكان طعامنا يومئذٍ الشعير والتمر والزبيب والأقط" (انتهى).

وبالفعل فالمكرونة ليست كالخبز مِن كل وجه، بل إذا استصحبنا إننا هنا حققنا وجود صاع القمح المنصوص عليه، وبقي النظر في درجة النفع، فيمكن أن يُقال: إن المكرونة أنفع مِن الخبز، بل أنفع مِن الدقيق، في زماننا في كونها جافة، ويمكن حفظها لنفس فترة حفظ القمح، وأنفع مِن القمح؛ لأنهم لا يكادون يستخدمونه وهو على هيئة حب كما هو؛ لا سيما في المدن.

وذلك ورغم اختيارنا -في السنوات السابقة- لعدم إدراج المكرونة ضمن جداول الزكاة؛ دفعًا لتوهم أنه يجوز إخراج الأطعمة المصنعة (مع أن القول بجواز إخراج المكرونة مبني كما تقدَّم على أنه قمح مصنع بصورة أو بأخرى) إلا أنه مع غلاء سعر الأرز الذي كان يناسب شريحة كبيرة مِن المسلمين في إخراج صدقات فطرهم، وبالتالي توجَّه الكثير منهم إلى إخراج القمح (لا سيما وأن دار الإفتاء المصرية تعلن عن الحد الأدنى للقيمة بناءً على قيمة القمح)؛ فقد رأينا أن ندرج المكرونة ضمن أصناف زكاة الفطر بناء على التعليل الفقهي السابق عرضه، ولعل هذا مما يرد على دعوى أن مَن يعملون بالسُّنة وبمذهب الجمهور في إخراج زكاة الفطر طعامًا يخرجون للناس أصنافًا لم تعد قوتًا لهم بحالٍ كالشعير، بل إن القمح الذي هو غالب قوت الناس في بلادنا لما أصبحت أدوات تجهيزه ليكون طعامًا غير متوافرة في البيوت؛ رأينا أن الفقه يقتضي تقديمه للفقير في صورةٍ جاهزة للطعام، وممكنة التخزين في آنٍ واحدٍ سواء كانت دقيق أو مكرونة.

تنبيه: المكرونة تصنع مِن دقيق خالص (يفضل غالبًا أن يكون مِن أنواعٍ، نسبة الرطوبة فيها قليلة، لا تتجاوز 13%)، ويعجن هذا الدقيق بإضافة الماء ويصبح عجينًا ثم يكبس ليأخذ الشكل المطلوب (لسان عصفور - عقل صغير - عقل كبيرة - إلخ)، ثم يجفف لتصل نسبة الرطوبة في المنتج النهائي إلى 10%؛ مما يعني أنه في مرحلة التجفيف يتم التخلص تمامًا مِن كل الماء الذي أضيف في مرحلة العجين والتخلص أيضًا مِن جزءٍ مِن الرطوبة الأصلية التي كانت موجودة في الدقيق، وقد يضاف محسنات لون لا تكاد نسبتها تذكر نهائيًّا.

وبناءً على هذا: فالذي يخرج مِن "المكرونة" كيل صاع مِن "المكرونة" التي يشبه حبها حبة الأرز (لسان العصفور)، أو ما يكافئ صاع الدقيق وزنًا.

13- تقدَّم أن مَن رجح مذهب الجمهور فلن يلتفت إلى الادعاء بوجود حاجة يبحث على أثرها بحث جواز القيمة؛ إلا إذا كانت حاجة جدت بعد زمن التشريع أو -على الأقل- زادت وعمت، وإلا فهذه الحاجات التي كانت موجودة في زمان التشريع ولم يرتب عليها الشرع هذا الحكم؛ فهي مِن باب المصالح الملغاة، علمًا بأن أكثر ما يدعيه الناس في ذلك هو قولهم بتنوع حاجات الفقير غير الطعام، وهي غير معتبرة مِن جهة الدليل؛ للسبب الذي تقدم.

وأما مِن جهة النظر فنقول:

إن مِن المتفق عليه أن الطعام هو آكد الحاجات البدنية للإنسان، وبالتالي فهذا الفقير الذي تدفع له زكاتك إن تصورنا أنه معدم فسيكون لهفته للطعام لا يدانيها شيء، وإن تصورنا أنه رقيق الحال، وقد دفعت له طعامًا قابل للادخار فأنت بهذه الطريقة توفر له فرصة أن يوجه المال القليل الذي معه إلى شراء الحاجيات الأخرى، ومع هذا فلو تصورنا أن بلدًا ما فيها فقراء وجدوا مَن يسد جوعهم، وهو في حاجة ماسة إلى ملبس يستر عورتهم ويقيهم مِن الحر والبرد، والزمان زمان زكاة فطر؛ فهذه مما يقال فيها بجواز إخراج زكاة الفطر قيمة للحاجة -كما سيأتي نظير ذلك في فتاوى الشيخ ابن باز في زكاة المال-.

14- كثير مِن الناس يفتي بجواز (النقد بدلًا مِن الطعام في زكاة الفطر) عملًا بمذهب القيمة، وبعلة أن النقد أنفع مِن الطعام ثم هو نفسه يفتي بمذهب القيمة أيضًا، ولكن في الاتجاه العكسي (الطعام بدلًا مِن النقد) عندما يفتي بجواز دفع الزكاة لبنك الطعام مثلًا، وهو مما يؤكد اضطراب الحاجة التي يعتبرها البعض مسوغة للعدول عن أصل الزكاة المفروضة إلى قيمتها.

ويُستفاد مِن هذا أيضًا، ومِن توجّه معظم دول العالم لإنشاء بنوك طعام أنه مِن غير المطابق للواقع إطلاقًا: ادعاء أن الفقير يحتاج إلى أمور أخرى أكثر مِن الطعام، كما يؤكد أن حاجات الناس متنوعة بحيث إنه لو خرجت كل الزكوات كل واحدة مِن جنسها لغطت تلك الحاجات المتنوعة بفضل الله -عز وجل-.

وبالتالي فالقول في زكاة النقود أن تخرج نقدًا؛ إلا إذا وجدت حاجة طارئة بالمعنى المبيَّن سابقًا، ومِن ذلك فتوى التالية اللجنة الدائمة للإفتاء (وهي مِن الهيئات التي تتبنى مذهب الجمهور في عدم جواز إخراج القيمة في الزكاة):

سُئلت: "نحب أن نستوضح مِن سماحتكم عن موضوع صرف مبالغ مِن الزكاة لشراء مواد غذائية منوعة وعينية: كالبطانيات، والملابس، وصرفها لبعض الجهات الإسلامية الفقيرة، مثل: السودان وأفريقيا، والمجاهدين الأفغان، خاصة في الحالات التي لا تتوفر المواد الغذائية بأسعار معقولة في تلك البلدان، أو تكاد تكون معدومة فيها كلية، وإن توفرت فيها فهي بأسعار مضاعفة عن الأسعار التي تصلهم بها لو أرسلت عينًا. نرجو إفادتنا، جزاكم الله خيرًا بما ترونه حيال ذلك.

فأجابت: "إذا كان الأمر كما ذكر فإنه لا حرج في ذلك؛ مراعاة لمصلحة مستحقيها" (انتهى مِن "فتاوى اللجنة الدائمة" (9/ 433).

15- مِن العدل والإنصاف: "نظرية بنظرية، وتطبيق بتطبيق":

مِن أكثر صور عدم الإنصاف أن يُقارن أحدهم الصورة المثلى عنده بالصورة الواقعية عند مخالفه، فيقول مَن يحبذ العمل الفردي مثلًا: أنا أنهى عن التعصب و... (وهو هنا يتحدث عما يدرسه لتلاميذه لا عن سلوكهم)، ثم يقول: وأما أنتم يا أصحاب العمل الجماعي فقد فعل فلان كذا، وقال فلان كذا... (وفي الأعم الأغلب سيكون فلان وفلان هؤلاء ممَن يحتاجون إلى أن يتعاهدهم هو وغيره بالنصيحة في هذا الأمر وفي غيره؛ لحداثة سنهم أو عهدهم بالعلم أو الدعوة)، وربما نقل بعضهم عن بعض، ويعتري النقل مبالغات أحيانًا أو عدم ضبط أحيانًا أخرى حتى تجد حكايات هي أشبه بالأساطير!

وفي المقابل: لو بحثت عن "واقع" طلابه لربما وجدت أن الغلو والتعصب فيهم -رغم نهي شيخهم عنه- أشد، بحكم تمحورهم حول شيخ واحدٍ وأستاذٍ واحدٍ، بل ربما حاكوه في عاداته بما يشبه صنيع الطرقية مع شيوخهم، ولا شك أن ما مِن فكرة إلا ويعتريها عند التطبيق خلل؛ لجهلٍ مِن البعض، وتقصير مِن البعض الآخر، وكما ذكرنا في بعض الأحيان يزيد فيه الناقلون ويتوسعون.

ولكن الواجب أن نناقش كل فكرة مِن حيث هي، ثم نناقش الانحرافات في التطبيق، وهل هي مِن جنس الانحرافات التي تعتري أي فكرة عندما تنزل على أرض الواقع للجهل مِن البعض، والتقصير مِن البعض الآخر؟ أم أن الانحراف بسبب أن الفكرة صعبة التطبيق، ولا بد وأن تتحول إلى تلك الصورة الواقعية المستنكرة.

وفي مسألتنا يتداول كثيرٌ مِن القائلين بالقيمة قصة امرأة فقيرة (مرة مِن مصر ومرة من سوريا، ومرة مِن بلد ثالث، وهكذا... ) دفع إليها بعض المتشددين زكاة فطرهم شعيرًا (يخفف بعض رواة القصة مِن الطابع الأسطوري لها بجعلها قمحًا، وبالطبع غير مطحون!)، وحيث إن تلك الحبوب مما لا نفع مباشر فيه، فقد طافت تلك المرأة بها على المحلات بغرض بيعها، والتجار يساومونها بأبخس الأسعار! ويبالغ بعضهم أحيانًا في ذكر تفاصيل تجعلك تسأل عن الراوي: أيروي عن مشاهدة أم عن سماع؟ وفي أي كوكب في مجرتنا السماوية حدثت تلك الوقائع؟!

وبعيد عن الأجواء الاسطورية التي تحتف بكثيرٍ مِن رواية هذه القصة، وعلى التسليم بأن لها أصلًا صحيحًا فنقول لهم: الأمر يسير؛ فمَن وجد مَن يخرج زكاته على هذا النحو؛ فمِن الممكن أن يقول له: إن كنتَ تريد أن تطبِّق الحديث وتتبع مذهب الجمهور، فقد بيَّن لك الحديث أنها طعمة للمساكين، فهل أنت تطعم الشعير حتى تطعمه الفقير؟!

وإذا كنت لا تطيق إلا سعر القمح فأخرجه دقيقًا، واعف الفقير مِن مؤنة طحنه، أو لو كنت في المدن فأخرج ما يكافئه مِن المكرونة، وإن وسَّع الله عليك وأنت تعلم أن معظم الناس يخرجون الدقيق والأرز؛ فأخرج للفقير حَبًّا آخر ما يطعمه الناس: كالفاصوليا، واللوبيا، والعدس، أو...

وكذلك مَن وجد أن بعض المتصدقين يخرجون بأكياس الطعام إلى صلاة العيد فيدفعونها إلى أول سائل، وغالبًا مَن لا يكون فقيرًا مما يحرم الفقراء منها، (مع أن هذه الآفة لا تختص بصورة إخراجها طعامًا، بل كثير ممن يخرجها قيمة يقع في هذا، فتجد الواحد منهم إذا ألح عليه سائل وهو في طريقه دس يده في جيبه فأخرج له قيمة زكاته ودفعها له، وهو يكاد يجزم أنه ليس مِن الفقراء!).

وعلاج هؤلاء وأولئك أن يعلموا: أن الشرع رخَّص في إخراج زكاة الفطر قبْل العيد بيوم أو يومين؛ ليتمكن المزكي مِن تحري الفقراء، وأن الشرع جوَّز الوكالة في هذا الباب؛ ليستعين المزكي بإخوانه أو بالجمعيات الخيرية في زماننا لإيصال زكاته إلى المستحقين إن كان يجهل الطريق إليهم.

17- هل في المسالة قول أحوط مِن آخر؟

علمنا الخلاف في المسألة، والناس فيها كغيرها مِن المسائل: مجتهد ينظر في الأدلة ويستنبط، أو طالب علم يمكن أن يكون له نظر في المسألة بعد الاطلاع على أقوال المجتهدين، وعامي يقلد أوثق مَن لديه؛ سواء لم يطق إلا أن يعرف الحكم بيجوز أو لا يجوز، أو عرف معه وجه استدلال مفتيه، وهو أفضل بلا شك.

هذا إذا أردنا الترجح بين الأقوال، وإذا كان هناك فرصة للاحتياط؛ فهو أولى بلا شك، فهل هذه المسألة فيها قول أحوط مِن آخر بحيث يقال: إن الأولى أن يطبقه الإنسان حتى لو لم يكن راجحًا عنده؟!

كما سبق، رأينا أن الجميع متفقون على مشروعية إخراج الطعام، وأن مَن جوَّز القيمة لم يزد على أن جعلها خيارًا زائدًا لم يوافقه الجمهور عليه، وأن مَن حبذ القيمة حبذها انطلاقًا مِن شفقته أن يصل إلى الفقير ما يضطر إلى بيعه، ولكن إن اطلعتْ على مقرات الجمعيات الخيرية التي تخرج الطعام المرغوب فيه، المدخر الذي إن وسع الله قد يكفي الأسرة أسبوع العيد، بل شهره، بل أكثر مِن هذا، وكلها مِن الأصناف الجيدة التي يأكل منها الأغنياء، فيأكل الفقير قوتهم جنسًا وكيفًا، ورأيت كيف يتوافد الناس يسألون عن موعد التوزيع مرة بعد مرة خشية أن يفوتهم، ثم رأيتهم وهم ينصرفون بحقوقهم التي كتبها الله لهم، قريرة بها أعينهم - فستعلم أنه إن كانت القيمة جائزة عند فريقٍ مِن أهل العلم فهم لا يقولون جزمًا بلزومها، وأما مِن جهة الأفضلية: فقد علمت مِن التطبيق العملي أن المسوغ الذي مِن أجله فضَّل البعض القيمة لا وجود له -بفضل الله-؛ فلمَ تغامر بإخراج زكاتك على نحو يقول معظم أهل العلم بعدم إجزائه؟!

18- قال أبو داود: "قيل لأحمد بن حنبل وأنا أسمع: أعطي دراهم؟ -يعني في صدقة الفطر- قال: أخاف أن لا يجزئه؛ خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، والإمام أحمد -رحمه الله- لا يَخفى عليه أن المسألة فيها خلاف سائغ، بل هو نفسه ممَن جوَّز القيمة عند الحاجة (ولكن بضوابط سبق بيانها)، ولكن هذه كانت طريقة الأئمة والعلماء أنهم يعلمون أن مَن يسألهم إنما يسألهم عما يدينون لله به، وليس ما يدين به غيرهم؛ ننبه على هذا؛ لأنه صار في زماننا مَن لا يلزمك أن تبيّن وجه الاستدلال على ما تفتيه ولو مختصرًا، ولكن يلزمك في كثيرٍ مِن الأحيان أنك لو استدللت بظاهر نص حملته أنت على ظاهره لأنك لم تجد ما يقتضي تأويله، وأوَّله بعض أهل العلم، فيلزمك حينها أن تتوسع في ذكر هذا التأويل بدعوى محاربة التعصب.

نعم تأدب الإمام أحمد مع المخالف فقال: "أخاف ألا يجزئه"؛ لعلمه أن السائل إنما عمل بالقيمة بناءً على فتوى مِن غيره.

19- قال الإمام أحمد: لا يعطي قيمته. قيل له: يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة. قال: يدعون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال فلان؟! قال ابن عمر -رضي الله عنه-: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... "، وقال الله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النساء:59)، وقال: قوم يردون السنن، قال فلان، وقال فلان!".

ما أحوجنا في هذه الأزمنة أن نرد للديل هيبته، وأن نجعل مِن قول الإمام أحمد هذا منهجًا لحياتنا، ومِن قبله قول حبْر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- حينما قال عروة لابن عباس: "أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ؟ تُرَخِّصُ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَلْ أُمَّكَ يَا عُرَيَّةُ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَلَمْ يَفْعَلَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكُمْ مُنْتَهِينَ حَتَّى يُعَذِّبَكُمُ اللَّهُ، أُحَدِّثُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُحَدِّثُونَنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ؟! فَقَالَ عُرْوَةُ هُمَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَتْبَعُ لَهَا مِنْكَ" (أورده ابن عبد البر في ''جامع بيان العلم وفضله'' (2377)، وابن القيم في ''الزاد'' (2/206) مِن طريق عبد الرزاق، حدثنا معمر عن أيوب، قال: قال عروة به. وصحح إسناده محققا ''زاد المعاد'').

كل هذا يؤكد اهتمام السلف بتكريس تعظيم الدليل عند السائل، وألا يقولوا بيْن يدي قال الله وقال رسوله: قال فلان أو فلان! ولو كان القائل البخاري -رحمه الله-، بل لو كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، بل ولو كان معاوية -رضي الله عنه-، بل ولو كان القائل أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

وهذا ليس نفيًّا لرخصة المقلد في أن يسأل أهل الذكر، ولكنه الأدب مع الكتاب والسُّنة، والحرص على أن المسلم إن استطاع أن يكون على بينةٍ مما يدين به لله وما يطبقه مِن دين الله؛ فهو الأصل الذي لا محيد عنه.

20- غير أنه ينبغي أن تسد الذرائع؛ لا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه تطاول الأقزام على العلماء، فإذا نقلنا مثل هذه النقول المشار إليها في النقطة السابقة؛ فلابد أن نذيلها بالتذكير بفضل أهل العلم وحُسن الأدب معهم، وواجب المسلم في مسائل الخلاف؛ كلٌّ بحسب رتبته، ويجمل في المسائل التي يُخشى أن تسبب منازعات أن يُبين إذا ما كان فيها خلاف سائغ، وبيان أدب التعامل معه.

وليحذر مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي مِن الوقوع في أعراض العلماء أو إطلاق أقوال قد يُستفاد مِن عمومها الطعن في بعضهم، كمَن يقول: "لا يقول بالقول الفلاني إلا مَن اتبع هواه!" أو نحو ذلك مِن الأقوال، كما يجب الحذر مِن كل مناقشة لا تفيد لأصحابها علمًا وأدبًا.

ولنتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

نسأل الله -تعالى- أن يهيئ لنا مِن أمرنا رشدًا، وأن يفقهنا في ديننا، ويرزقنا العمل به.

إنه ولي ذلك والقادر عليه.