الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 25 مايو 2019 - 20 رمضان 1440هـ

ظمأ الروح وأولويات الداعية

كتبه/ أبو بكر القاضي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فعن عبد الله بن أوس بن حذيفة الثقفي عن جده أوس -رضي الله عنه- قال: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَنَزَّلُوا الْأَحْلَافَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَنِي مَالِكٍ فِي قُبَّةٍ لَهُ، فَكَانَ يَأْتِينَا كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَيُحَدِّثُنَا قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُرَاوِحَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: (وَلَا سَوَاءَ، كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا)، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَلَيْنَا اللَّيْلَةَ قَالَ: (إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ حِزْبِي مِنَ الْقُرْآنِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَخْرُجَ حَتَّى أُتِمَّهُ)، قَالَ أَوْسٌ: فَسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ. (رواه ابن ماجه، وحسنه الحافظ ابن حجر).

هذا الحديث يبين قيمة الورد القرآني في حياة الداعية، وكيف أن اهتمامه بقلبه ووصله بالقرآن هو سر حياته وحياة دعوته، بل وحياة الأمة بأسرها إذا بارك الله في خطاه وفي آثاره، وسمي الورد وردًا إشارة إلى ورود الماء وكأنه ماء الحياة وهو القرآن.

قال السخاوي: "والورد أظنه مِن الورد الذي ضد الصدر؛ لأن القرآن يروي ظمأ القلب".

ففي ظل الفتن التي تموج كموج البحر المظلم وفي زل ظلمات الغربة المتكاثرة تذهب رطوبة القلب ويتيبس ويقسو، وتغور فيه معاني الحياة والنور، ويظمأ ظمأ تتشقق من جرائه حناياه شوقًا لغيثٍ وريٍّ لا يكون إلا بشكل منتظم وغذاء متكامل بوجبة غنية مفعمة بحب الله والشوق إليه، والخوف منه ورهبته ورغبته، وذلك من ديمومة الورد القرآني الذي يطفئ ذلك الظمأ ويطفئ نيران الشهوات، ويحرق حشيش الشبهات الذي يذهب جفاءً مع ذلك السيل المبارك مِن الماء الطاهر الثجاج الذي يغمر القلب.

وتأمل في قولهم: "أَبْطَأَ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فِيهِ"، كثير منا قد يفضِّل العمل المتعدي النفع على العمل الفردي التعبدي في الجملة، ويقول: هذا ينفع الأمة، وذاك نفعه قاصر على فردٍ.

وهذه نظرة قاصرة!

وتستطيع أن تفسر انقطاع كثير من الأعمال الدعوية وعدم إتمامها على الوجه اللائق أو استمرارها بدون ثمرة حقيقية بسبب تلك النظرة، فلما كان القائمون على ذلك العمل المتعدي قد تسطح عندهم الإيمان وأصبح قشورًا ظاهرة لم تضرب بأطنابه في تربة قلوبهم لقسوتها تسطح أثرهم وأثر أعمالهم في تقدم الأمة في مسيرة الإصلاح والدعوة إلى الله.

النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو إمام الدعاة وقائد تلك القافلة النورانية التي غيرت -ولا زالت- تغير مجرى التاريخ والمستقبل، احتبس عن موعظته ليلة. لماذا؟! ليروي ظمأ روحه وقلبه، وهو الذي نزل على قلبه القرآن.

فكيف بقلوب مريضة بالجهل والشهوة والغي والضلال؟!

كيف بقلوب ماتت ودفنت في أعماق تراب الحياة، ومع ذلك متصدرة لعمل إسلامي تفسد أكثر مما تصلح؟!

كيف تكون حاجتها لكي تستفيق من الغيبوبة ومن مكر الشيطان بهم؟!

إن الزعم أن العمل المتعدي (الدروس والمحاضرات والندوات والمؤتمرات والعمل الحركي والاجتماعي) أهم في الجملة مِن الجانب التعبدي في حياة الداعية هكذا بدون تفصيل، نظرة ساذجة سطحية، بعيدة عن العمق الموضوعي.

فعلينا أن ننزل كل أمر منزله ونعطي كل ذي حق حقه، وأولى الحقوق لتلك الآلة المنتجة للأقوال والأفعال والسلوكيات، المستجلبة للتوفيق من السماء؛ ألا وهي القلب.

طروء وردك وحزبك مدعاة للانقطاع والاحتباس حتى تنهيه ما لم يتعارض مع واجب عيني تأثم بتركه، مقتض لغلق هاتفك وغلق موقع التواصل الاجتماعي وإلغاء درس وتأجيل موعد ولقاء حتى تنهيه، والأمر في منتهى اليسر لو استغللنا أوقاتنا ولم تضعها في اللغو واللهو العب!

ولكن إذا مالت الكفة لا تجعلها تميل على جانب ظمأ الروح...

لا تجعل كفة العبادات التي تخلو مِن حظ النفس في الظهور والشهرة على العبادات التي توثق صلتك بربك خالية مِن شوائب الرياء والسمعة.

كن فقيه النفس فطنًا لخيانتها وخسة شراكتها وأمرها بالسوء، ورتب أولوياتك على وفق إمامك المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في إصلاحك وصلاحك ودعوتك، النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا نشترط وردًا معينًا بكمٍّ معين، ولكننا نشترط وردًا يطفئ ظمأ الروح، وردًا دائمًا لا ينقطع، ليكون أولى الأولويات.