الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 07 مايو 2019 - 2 رمضان 1440هـ

لا تفعلها عادة، بل عبادة

كتبه/ جمال فتح الله عبد الهادي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن لكل عبادة شرعها الله أسرارها وأنوارها، ومزاياها وفوائدها، يؤديها العبد فيكسب بها رضا الله -عز وجل-، ومع الأيام قد تصبح هذه العبادات عادات؛ بمعنى أن العبد يؤديها دون شعور بأهميتها، ودون شعور بأنوارها، وإذا ما وصل الإنسان إلى هذا الحد في عباداته أو في بعضها فقد أضحى على منعطف خطر، ويجب عليه أن يراجع أعماله ليصححها، وبكل أسف فقد أضحت عبادات الكثير من الناس عادة اعتادوا عليها ودرجوا، ربما تعلموها من آبائهم أو أنهم اعتادوا عليها فيما بعد.

والخطر في الموضوع يكمن في أن روح العبادة ولذتها هي ما يدفع الإنسان لفعلها ولمكابدة المشاق والمتاعب من أجلها، فإذا ما تحولت العبادة إلى عادة فإن الإنسان سيتركها عند أول مشكلة تعترضه؛ ولذلك كان من الواجب على الإنسان أن يحاول فهم ما أراد الله من التشريع.

إن مِن أعظم آفات العبادات: آفة الإلف والعادة، فعندما يعتاد المرء العبادات وتصبح جزءًا مِن برنامجه اليومي: كالصلاة، والأسبوعي: كالجمعة، والسنوي: كرمضان، والحج؛ تتحول هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تضيف جديدًا إلى حياة الفرد.

وإن مَن يدقق النظر في ركن الدين الأعظم بعد توحيد الله -تعالى- وهو الصلاة، التي وصفها الله -سبحانه- بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فقال -تعالى-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت:45)، يجد أنها تحولت إلى عادة مِن العادات عند كثيرٍ منا، فأصبحت لا تنهى عن الفحشاء ولا المنكر! بل صارت أشبه بجهاز تسجيل، يكبر المسلم ليدخل صلاته، فيكرر لسانه المحفوظات التي اعتادها بلا تفكير منه فيما يقرأ ولا تدبر لأذكارها، ويخرج منها كما دخل، فلا خشوع ولا خضوع ولا قرب -إلا مَن رحم الله تعالى-؛ فصاحب التدخين ما زال يدخن، وصاحب الأغاني مستمر، وصاحب الربا مصر، وصاحب الغيبة ربما يكثر منها، وصاحبة التبرج تتباهى به، إلخ.

وهذه المعاصي تضعف الايمان وتقوي جانب الشيطان، وتمرض القلب، وهو الران: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14)؛ فأين التأثر بالصلاة وتذوق طعم الإيمان؟!

إن مقياس وضابط تحول الصلاة إلى عادة هو مقدار الإحساس بالخشوع واللذة فيها، فإن كانت الصلاة حركات وأقوالًا مجردة لا تحرك في الوجدان ساكنًا سواء بالتأخر عنها، أو بما فيها مِن أقوالٍ وأذكارٍ؛ فهي إذًا عادة؛ ألا ترى يا أخي كيف كان ينظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها؟! فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول لبلال -رضي الله عنه-: (يَا بِلَالُ أَقِمْ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، هذه هي الصلاة التي ضيَّع روحها وثمرتها كثير مِن الناس ممَن أصبحت الصلاة لا تمثِّل عندهم إلا حركات وكلمات لا صلة بينها وبين قلوبهم.

واعلم يا أخي أن مَن صارت صلاته كذلك؛ تجده لا يعرف حتمًا صلاة الليل وقيامه؛ لأنه لو كان يعلمها لوجد لذة الصلاة، ولجاهد مِن أجلها.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال بعض السلف: إني أدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها، ويضيق صدري إذا فرغت أني خارج منها، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، ومَن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود ألا يفارقه ولا يخرج منه، فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به.

وكذا في صيام رمضان: فالملاحظ أننا في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته، وما يجب علينا مِن اغتنامه، حتى حفظ الناس أحاديثه وآياته، فلم يتدبروها ويفكروا فيها، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها؛ عبر أحداثٍ رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم.

ولئن كان الاعتياد على كثيرٍ مِن شئون حياتنا الدنيوية مقبولًا، فإن مِن غير المقبول أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله -سبحانه-؛ لذلك ينبغي لنا أن نتذكر جيدًا أن مِن آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثرًا في نفسه أو سلوكه.

قبل عام ودعنا شهر رمضان، ثم ها هو يقبل الآن، وربما لم يشعر كثير منا بقيمة الزمن الذي طويت فيه الأيام والشهور، وأننا مسافرون إلى الله، ولكل عبد نهاية ولا بد، قال الله -تعالى-: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم:42).

ومما يجب على العبد المسلم أن يبحث عن الزاد الذي يقربه إلى الله -تعالى-؛ حيث إن الطريق موحش وطويل، ولا بد فيه مِن زاد، وقد جعل الله تعالى شهر رمضان لتطهير القلوب من الخطايا والعيوب وغفران الذنوب.

أتى رمضــان مــزرعة الـعـبـاد          لتطهير الـقـلــوب من الـفســـاد

فــأدِّ حــقــوقــه قــولًا وفــعــلًا          وزادك فـــاتـخــذه إلـى الـمعــاد

فمن زرع الحبوب وما سقـاهـا          تــأوه نــادمـًا يـــوم الـحــصــاد

فهل استقبلنا رمضان بتوبة تغسل عنا الذنوب؟! ومِن ثم يزال الران مِن القلوب فنحسن اغتنام أيامه، لنخرج مِن رمضان بلا ذنوب، وما أدرانا فقد يكون رمضان الأخير في حياتنا؛ فاغسل ذنوبك قبل مماتك.

ومع الأسف، فإن مِن الناس مَن يستقبل الشهر بعدم اهتمام وعدم اكتراث، كأنه شهر مِن الشهور، وقد أخطأ مَن لا يفرِّق بين رمضان وغير رمضان، وأن يجعل يوم صومه كيوم فطره، وهناك مَن يعرف للشهر فضله ومكانته، لكنه لا يستقبله بتوبة نصوح، وعزم أكيد على الاستقامة في أيامه ولياليه، بل يستقبله بفتورٍ وعدم جدية وقلة نشاط، وهذا لأنه أدى الصيام عاده تعود عليها وهذا خطر عظيم.

ولم يقف هذا المرض الخطير عند الصلاة فقط، بل تجده في كل صورة مِن صور العبادة؛ ألا ترى أن بعض الناس ممَن يصوم رمضان، أقواله وأفعاله لا تقترب مِن الصيام في شيء؛ فقد صام بطنه وفرجه، ولكن جوارحه لم تصم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، فمَن كان كذلك فهو لم يجد طعم لذة الصيام وثمرته، وأصبح يصوم لمجرد أن هذا رمضان، الجميع يصومه، ونشأ وتربى على صيامه، وإذا بحثت عنه في صيام السنن والمستحبات لم تجده، وعلى تلك الشاكلة تجد حال هؤلاء متكررًا في كل عبادة.

الصيام لن يؤتي ثماره المرجوة منه إلا إذا شعر الصائم مع كل لحظة صيام بالجائعين بالمحتاجين، لن يؤتي ثماره إلا إذا شعر في كل لحظة أنه صائم، وأنه يقوم بذلك ابتغاء مرضات الله، وإلا إذا تحول الصيام إلى مجرد انقطاع عن المفطرات فقد فَقَدَ روحه، وصار جوعًا وعطشًا وحرمانًا مِن المباحات.

والمطلوب من الإنسان شيئان:

الأول: ألا تتحول عباداته إلى عادات.

والثاني: أن تتحول عاداته إلى عبادات، وهذه نعمة مِن نعم المولى -عز وجل- مَنَّ بها على عباده؛ فكل عادة نويت بها نية طيبة صارت بمجرد النية عبادة، وهذا باب من أبواب الكرم الإلهي؛ فلنحسن نياتنا ولنراقب سرائرنا، ولنحاول فهم سر التشريع وتذوق حلاوته.

والحمد لله رب العالمين.