الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 06 ديسمبر 2018 - 28 ربيع الأول 1440هـ

تأملات في حجة الوداع (20)

الأصل الجامع للدِّين ومحور دوران الشريعة

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبته بعرفة في حجة الوداع: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي؛ فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: "نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ". فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ)، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم)، يبيِّن الأصل الجامع لهذا الدين ومحور الدوران لهذه الشريعة: "القرآن العظيم"، وهو سبب الهداية لمَن اعتصم به وتَمَسَّك؛ تحصل به هداية البيان؛ فقد جعل الله آياته بَيِّنَاتٍ مُحْكَمات، وهداية التوفيق والإسعاد لمَن آمن به وعمل بما فيه؛ فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يهديه سُبُلَ السلام ويخرجه مِن الظلمات إلى النور بإذنه ويهديه إلى صراطٍ مستقيمٍ.

إن مرجعية القرآن في الشرع هي الأساس الذي تُبنى عليه مصادر الاستدلال والتشريع الأخرى؛ فهي مأخوذة منه، فالسُنَّة: التي تضمنتها أيضًا حجة الوداع في هذه الخطبة العظيمة بقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: "نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ"، قد دَلَّ عليها القرآن العظيم؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (النساء:80)، وقال -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم:1-5).

وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59)؛ فجعل -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِن شرط الإيمان بالله واليوم الآخر أن تُرَدَّ مَوَارِد النزاع إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابه وإلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سُنَّتِه.

وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب:36)؛ فوجود الاختيار عند الإنسان بعد بلوغ الكتاب والسُنَّة له ينفي الإيمان عنه، وقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6)، وفي قراءة أُبَيّ: "وهو أبٌ لهم".

وهذه الأولوية للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تستلزم تقديمَ كلامِه على كلام كل أحد، وأمره على أمر كل أحد، ونهيه على نهي كل أحد، وحُبه على حب كل أحد، وهديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هدي كل أحد.

وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء:60-61)؛ فبَيَّن حالَ المنافقين وأنهم يعرضون عن التحاكم إلى الله والرسول -إلى الكتاب والسُنَّة- بإرادتهم التحاكم إلى ما خَالَف ذلك وهو حكم الطاغوت، قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65)؛ فالإيمان والإسلام بتحكيم الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في كل مواطن النزاع، في كل مسألة مِن مسائل الإيمان وحادثة مِن حوادث الأحكام، ومنزلة مِن منازل القلوب، وهذه هي الهجرة بالقلب إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ "فكُلُّ مسألةٍ طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحار الظلمات، وكُلُّ شاهدٍ عَدَّلَه هذا المُزَكِّي، وإلا فعُدَّه من أهل الريب والتهمات"، وآيات أخرى كثيرة يصعب حصرها في إثبات مرجعية السُنَّة من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-.

وأما الإجماع: فقد دَلَّ الكتابُ عليه أيضًا؛ قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:115)؛ فبَيَّن أن سبيل المؤمنين -وهو ما أجمعوا عليه هو مِن الحق والهدى- لا تجوز مخالفته، وكما قال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)؛ فمجموع المؤمنين لابُدَّ وأن يكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وآياتٌ كثيرة كلها تدل على أن ما أجمع عليه علماء الأُمَّة في عصرٍ مِن العصور فهو الحق لا مِرْيَة فيه.

والقياس الصحيح: أيضًا قد دَلَّ عليه القرآن؛ قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد:25)؛ ووزن المُعتَقَدات والأقوال والأعمال أعظم وأخطر مِن وزن المَطعُومات والمشروبات وسائر أدوات المعاش، وإنما تُوزَن العقائد والأقوال والأعمال بما ورد في الكتاب والسُنَّة بفهم علماء الأمة -وهو الإجماع-، والمعتبر في ذلك إجماع سلف الأمة مِن الصحابة والتابعين، وتابعيهم خير القرون.

وقد دَلَّ الحديث الشريف على بقاء القرآن في هذه الأمة، وأنه لا يضيع؛ لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَرَكَه فينا؛ فهي بِشَارةٌ مُوافِقة لقوله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9).

وتحقيق هذه المرجعية للقرآن والسُّنة هو منهج أهل السُنَّة والجماعة، وهو يشمل الدوائر الثلاث التي تشكِّل  شخصية الإنسان، وهي: "العقيدة - والعمل - والسلوك"، وهي التي ذكرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث جبريل؛ فالإيمان هو العقائد، والإسلام هو العمل -أركانه العبادات، وتتمته في المعاملات-، والإحسان هو السلوك الباطن مع الله، مِن الإخلاص والمراقبة، وسائر أعمال القلوب؛ فإنها مُتَلَازِمة، ويترتب على ذلك السلوك الظاهر مع الناس، مِن الأخلاق -كالصدق والوفاء والصلة والبِرِّ، والإحسان إلى الناس مِن الجيران والمعامَلين والأصحاب؛ فإن ذلك ثمرة الأحوال الباطنة.

وهذه الدوائر الثلاث لا بُدَّ فيها مِن الفعل والترك، والإيجاب والسلب؛ أعني أن العقائد لابد أن يوجد فيها العقائد الإيمانية -مِن الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خير وشره- بكمالِها وتفصيلها، ولا بد أن تُترَك العقائد الفاسدة -مِن الكفر والبدع- ويُرَدّ عليها وتُبْطَل، وهدم الباطل ضروري في إقامة الحق، والعمل لابد فيه مِن وجود العمل الصالح، وترك البدع في العبادات وترك الحرام في المعاملات، وأما السلوك؛ فلابد مِن وجود عبادات القلب -كالحب والخوف والرجاء، والتوكل والإنابة والإخلاص، والشكر والصبر والرضا، والافتقار إلى الله والاستغناء عمَن سواه، والتضرع إليه والانكسار بيْن يديه، وسائر عبادات القلب-، كما لابد مِن معالجة أمراض القلب -كالكِبْرِ والعُجْب والفخر والخيلاء على الناس والحسد والبغضاء والكراهية-.  الشك - العمى

ومِن أَجْمَعِ ما استعاذ منه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِن أمراض القلوب الحديث الجامع: (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، والكَسَلِ، والجُبْنِ، والبُخْلِ، والهَرَمِ، والقَسْوَةِ، والغَفْلَةِ، والعَيْلَةِ، والذِّلَّةِ، والمَسْكَنَةِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، والكُفْرِ، والشِّرْك، والفُسُوقِ، والشِّقاقِ، والنِّفاقِ، والسُّمْعَةِ، والرِّياءِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ، والبَكَمِ، والجُنُونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وَسَيِّىءِ الأَسْقامِ) (رواه ابن حبان والحاكم، وصححه الألباني).

وكذا ترك الأخلاق الفاسدة في التعامل مع الناس ومُحَارَبَتها -كالكذب وخلف الوعد والغدر والخيانة والفجور في الخصومة والعقوق وقطع الرحم والإساءة إلى الجار والمعامَلين والبغي والعدوان والظلم-.

والواجب أن يكون هذا البناء للإنسان مبنيًّا على الكتاب والسُنَّة وليس على ما يُخالِف ذلك، أو يختار مرجعيات أخرى سواهما؛ فإنه مِن أسباب الضلال.

والاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية في مسائل الاعتقاد هو الواجب، وليس علم الكلام، بل كما قال الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-: "حُكْمِي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِّعال ويُطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء مَن تَرَك الكتاب والسُنَّة واشتغل بعلم الكلام!".

وكذلك في مسائل العمل يجب الرجوع إلى الكتاب والسُنَّة وليس إلى أقوال الناس ولو كانوا الأئمة الكبار؛ قال الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-: "أجمع المسلمون على أن مَن استبانت له السُّنة لم يكن له أن يَدَعَها لقولِ أحدٍ مِن الناس".

وقال الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: "كُلٌّ يُؤخَذ مِن قَولِه ويُترك إلا صاحب هذا القبر -يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

وقال الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- في قوله -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63): "أتدري ما الفتنة؟! الفتنة: الشرك؛ لعله إذا ترك بعض أمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقع في قلبه شيء مِن الزيغ فيهلك".

وقال الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ-: "دَعُوا قولي لقولِ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

والتقليد الأعمى كان مِن أكبر الجنايات على الدين، التي حَالَت دون الناس ودون النصوص وفهمها، وصار التمذهب المُتَعَصِّب والدوران حول أقوال المتأخرين التي سَمّوها "معتمد المذهب" ولو خالفت أقوال الإمام نفسه والمحققين مِن علماء مذهبه، الذين يبنون الاستدلال على الكتاب والسُنَّة، بل ولو كانت مخالفة لصريح القرآن والسُنَّة الصحيحة - صار هذا التمذهب سببًا في عصور الانحطاط، ودخول البدع، بل الشرك إلى كثيرٍ مِن المنتسبين إلى الدِّين بسبب تقليدهم الأعمى؛ فقد جَوَّز بعضهم الاستغاثة بالأموات عند الشدائد والمِحَن، وطلب قضاء الحاجات، واتساع الأرزاق! فجوزوا بناءً على كلام المتأخرين أن يقول المستسقون في صلاة الاستسقاء: "اللهم أَغِثْنَا يا رسول الله، اسقنا الغيث ولا تجعلنا مِن المحرومين!".

وجَوَّز بعضُهم أنهم إذا أوشكوا على الغرق أن يستغيثوا برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إذ أنه عندهم أنفع مِن الاستغاثة بالله! مع أن المشركين كانوا إذا استغاثوا عند الغرق أخلصوا الدعاء لله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء:67)؛ فصار هذا الأمر سببًا في تسهيل قبول الأحكام الوضعية والقوانين الكُفْرِيَّة الأرضية التي وضعها الغرب الكافر بدلًا مِن شريعة الله؛ إذ سهلوا ترك النصوص، وأزالوا هيبة النص في التحكيم بيْن الناس؛ فحين حصلت الهزيمة العسكرية والاحتلال تَمَكَّن الغرب مِن فرض قوانينه، مع أنه عندما حصل الاحتلال أيام التتار غلب المسلمون التتار، وهزموا "الياسق" وأتباعه.

وكذلك الجانب السلوكي والخُلُقي يجب الرجوع فيه إلى النصوص؛ فقد تضمنت أكمل التزكية والتهذيب دون إفراط أو تفريط، وليس الرجوع إلى التصوف الفلسفي الغالي المبني على وحدة الوجود ومساواة الملل والأديان، كما يقول قائلهم:

بل ذاتي لـذاتـي صـلت ولَهَا              كان سُجُودِي في كل ركعة!

ويقول:

وإن خَرَّ للأحجارِ في البُدّ عـاكِـفٌ       فــلا وجــه لـلإنـكـارِ بالـعصـبيَّـةِ!

ويقول:

وما عقدَ الزِّنَّارَ حُكمًا سوى يدي        وإنْ حُلّ بالإقرارِ بي فهـْيَ حَلّتِ

وكذلك التصوف الخُرافي المبني على الدوران حول كلمات مَن سَمّوهم بالمشايخ والأولياء، والتي تضمنت أنواعًا مِن الغلو الفظيع والجهل المُدَمِّر؛ كالذين يعتقدون أن "الدسوقي" هو الذي أشار للنيل أن ينحرف!

ولما كثرت التماسيح في زمنه في النيل وخطف تمساح منها صبيًّا جاءت أُمُّه تستغيث بـ"إبراهيم الدسوقي!"؛ فأرسل رجلًا مِن أتباعه فوقف على شاطئ النيل وقال: "يا معشر التماسيح مَن اختطف منكم صبيًّا فليأتِ به!" -فصارت التماسيح تعرف اللغة العربية، وتعرف إبراهيم الدسوقي وتعرف تلامذته، وتسمع وتطيع له!-؛ فخرج التمساح يمشي مع صاحب الدسوقي حتى وقف به عنده؛ فقال له: "أَخْرِج الصبي"؛ فأخرجه حَيًّا يلعب! - يزعمون له الإحياء والعياذ بالله-، ثم قال للتمساح: "مُت الآن!"؛ فمات مِن ساعته دون أن يضربه حتى بنعل! فالأولياء عندهم يُحيون ويميتون؛ وجَوَّزُوا لذلك أن يُسألوا رزق الأولاد، حتى جَوَّز بعضُهم: "ادِّيني عَيِّل يا سَيِّد"!

صار هذا التصوف الخرافي سببًا لتدمير الأخلاق، وسهل كذلك عند الاحتلال أن تسيطر العادات الغربية والأخلاق السافلة التي تخلق بها المحتلون على النخب في المجتمعات المسلمة، ثم على العَامَّة ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

ولا غرو أن جاءت أبحاث المراكز البحثية الغربية التي تعالِج مشكلة التدين وتبحث أزمة "الصحوة الإسلامية" -فالتدين مشكلة والعمل الإسلامي أزمة لديهم!- تدعم التصوف الفلسفي القائم على وحدة الوجود، وتنشر فكر "جلال الدين الرومي"، و"ابن عربي"، و"ابن الفارض"، وأمثالهم!

وكذا التصوف الخرافي القائم على العودة إلى الموالد والدوران حول القبور واختراع الخزعبلات، كما يتضمن دعم الفلسفة وعلم الكلام، وعقدت المؤتمرات في مُدُن العالم شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا -ابتداءً مِن جروزني وانتهاءً بساحل العاج- على أرضية واحدة هي التأكيد على مرجعية علم الكلام والتقليد الأعمى والتصوف.

فهل يفيق أهلُ السُنَّة وأبناء الدعوة السلفية ويدركون الخطر، ويتمسكون بسبب الهداية: "كتاب الله"؛ فيتعلمونه تفصيليًّا ويقومون به علمًا وعملًا ودعوةً، وحُكمًا بيْن الناس؟!

وليس الأمرُ بالتَمَنِّي؛ ولكن ما وَقَر في القلب وصَدَّقَه العمل؛ فهل مِن مشمر؟!