الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 04 أكتوبر 2018 - 24 محرم 1440هـ

تأملات في حجة الوداع (11)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي؛ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ؛ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ؛ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي؛ فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟) قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ). ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).

في خطبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعَرَفَة قواعد بناء المجتمع المسلم، وهدم الجاهلية.

بدأ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببيان حُرمة الدماء والأموال، وفي رواية: (وَأَعْرَاضَكُمْ)، وتعظيم هذه الحُرُمات؛ إذ شَبَّههَا بحرمة هذا اليوم العظيم في الشهر العظيم. و(بَلَدكُمْ هَذَا): إشارة إلى مَكَّة المكرمة والأرض الحرام -وإن كان هو في عَرَفة ولَيْسَت مِن الحَرَم، لكنه يشير إلى البلدة- فغلّظ الأمر بهذه التشبيهات.

وقد كرر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا التأكيد يوم النحر، وفي خطبته في أيام التشريق، إضافة إلى النصوص العامة التي تُعظم حرمة المسلمين في دمه وماله وعرضه؛ وكأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخاف على أُمَّتِه أن يَسفك بعضُها دماءَ بعض؛ إذ أن الله قد أعاذ أُمَّتَه مِن شيئين، فحين نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) (الأنعام:65)؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)، قَالَ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)؛ قَالَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)، قال: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ) (رواه البخاري).

ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح الذي رواه مُسْلِمٌ عن ثَوْبَان -رضي الله عنه-: (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوَ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا).

وبالفعل فإن سفك الدماء وانتهاك الحرمات كانت مِن أعظم أسباب الفساد في الأُمَّة، وتَسَلُّط الأعداء عليها؛ فما أخَذوا بلادَهم وانتَهكوا حرماتهم إلا لما سفَك بعضُهم دماءَ بعض، وسبى بعضهم بعضًا؛ وهذا يدلنا على عِظَم خَطَر هذا الأمر وعدم الاستهانة به، فقد بُني المجتمع المسلم على تعظيم حرمات أبناء الإسلام مِن كل وطنٍ أو شعبٍ أو قومية أو قبيلة أو عائلة؛ فبثبوت الإسلام -بالنطق بالشهادتين، أو بالولادة لأبوين مسلمين أو أحدهما، وبالأمور الأخرى التي فيها خلاف- تثبت كل هذه الحقوق، والحفاظ على استقرار المجتمع مِن داخِلِه، وبرعايتها؛ ولذا كانت الخوارج والروافض الذين يَسْتَحِلُّون دماء المسلمين -مِن أهل السُّنة- مِن أخطر أهل البدع، إذ بَنَوا ذلك على تكفير أهل السُنَّة وهم عامة أهل الإسلام، ولا تجد أحدًا يستهين بأمر الدماء إلا كان مخذولًا في الدنيا والآخرة؛ فَلْيَحْذَر المسلمون مِن كل ما يؤدي إلى سفك الدماء بغير حق.

ثم كانت الخلافات السياسية هي السبب الثاني في الخطورة بعد البدع التي أدت إلى سفك دماء المسلمين، وتوقف دعوتهم الجهادية التي تُخْرِج الأممَ والأقوامَ مِن الظُّلُمات إلى النور؛ فلا بد أن تظل الخلافات السياسية في حيزها، حتى لا يسمح لها بالتسبب في الاقتتال داخل المجتمع المسلم.

ثم يأتي فساد الذِّمَم -فيما يتعلق بالأموال والأعراض- مِن أعظم أسباب هدم الأمة وحصول الضرر لأبنائها، وهل ضعفت أُمَّتُنا إلا مِن خلال البِدَع والنزاعات السياسية والفساد المالي والخُلُقِيّ؟!

فمَن أراد بالأمة خيرًا فَلْيُحَارِب الفسادَ العَقَدِيّ، وَلْيُهَدِّئ مِن حِدَّة الاستقطاب والعناد في النزاعات السياسية، ولْيَجْتَهِد في الدعوة الإصلاحية، التي بها يمتنع الفساد المالي والسلوكي والخُلُقي.

ثم كان هدم الجاهلية الذي أعْلَنَه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أكبر تجمعٍ مِن الصحابة شَهِدَه -عليه الصلاة والسلام- فقال: (أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ).

إن الإسلام لا يقوم قيامًا تامًّا إلا بهدم الجاهلية؛ فكما أن كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" تتضمن النفي والإثبات، فالنفي هدم جاهلية الشرك والكفر، والإثبات إقامة الإيمان بالله والتزام شرعه ودينه الذي بَعَث به رسولَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فكذلك المجتمع المسلم لا تتم مَصَالِحه إلا بوضع الجاهلية وهَدْمِها.

والجاهلية: نسبة إلى الجهل، وهي حالة ومرحلة ما قبْل الإسلام، وخصائصها ومميزاتها في: مجال العقيدة والحكم، ووضع المرأة والحمية والعصبية، والنظام الاقتصادي، وفي أمور أخرى بيَّنَها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وفي كل واحدة مِن هذه المميزات التي وردت بها نصوص القرآن والسُّنة منها ما يكون جاهليةَ كُفْرٍ وشِرْكٍ، ومنها ما يكون جاهليةَ معصيةٍ أو بدعة.

فأما في مجال العقيدة، فقد قال -تعالى-: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154).

فظَنُّ الجاهلية: عقيدتها الفاسدة، والتي فُسِّرت في الآية بإنكار القَدَر، وبإنكار الحكمة، وبالاعتراض على التشريع الذي أمر به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أمر عزوة أُحُد؛ فإنكار الحكمة في القَدَر وإنكار الحكمة في التشريع مِن ظَنِّ الجاهلية، ولا شك أن هذه بعض البقايا التي بقيت عند البعض الذين شَهِدوا أُحُدًا؛ وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن مِن الجاهلية ما لا يكون كفرًا؛ فإن الذين قالوا ذلك كانوا ممَن شَهِد أُحُدًا، وليسوا منافقين، فإن المنافقين رجعوا مع عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول، ولم يَشْهَدوا الوقعة، ولقد عَفَا الله عن مَن شَهِدوا الواقعة، بنص الآية: (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) (آل عمران:155).

ولذا يجب الحذر مِن الخطأ الكبير في استعمال لفظ: "الجاهلية" -خصوصًا في وصف المجتمع- مرادفًا للفظ الكفر، كما كثر استعماله عند سيد قُطْب ومَن تَبِعَه.

- وبعضُهم كَفَّر المجتمع الذي سَمَّاه جاهليًا بالكلية كجماعات التكفير -كشكري مصطفى ومَن وَافَقَه-، فحكموا بالكفر على كل أفراده إلا جماعتهم.

- ومنهم مَن كَفَّر طوائف كثيرة مِن المجتمع: كالدولة والجيش والشرطة، والأحزاب والهيئات السياسية، وكل مَن يشارك في الانتخابات بلوازم باطلة أن هذا رضًا بالطاغوت والشرك، وهذا باطل.

- ومنهم مَن جعل المصطلح مُمَاثِلًا لمصطلح "دار الكفر" عند أهل العلم، كما فعله محمد قطب، ثم قسَّم المجتمع إلى ثلاث طبقاتٍ مِن جهة الحكم على الأفراد:

1- مسلمين بلا شبهة، وهذه طبقة المتابعين لهم.

2- وكفار بلا شبهة، وقد توسعوا فيها جدًّا بلا ضوابط التفريق بيْن الكفر الأكبر والأصغر، وبلا ضوابط التفريق بيْن النوع والعين، وبلا تطبيق لمسائل استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، بل يجعلونها مِن الشبهات التي لا بد مِن ردها؛ فحصل الخلل العظيم بسبب هذا المصطلح.

3- وأما الطبقة الثالثة فهي الطبقة المتميعة التي لا نشغل أنفسنا بالحكم عليها، كما قال عنهم صاحبُه في "التوقف والتبين" عبد المجيد الشاذلي: "فنتوقف في مواضع اللوث"، وهذه الطائفة مجهولة الحكم يسهل اتخاذ المواقف ضدها، ويقع التساهل في تعريض دمائها وأعراضها وأموالها للخطر فداءً للطائفة الأولى، ومَن كان منهم مسلمًا في الحقيقة فحسابه على الله في الآخرة، ولا يضرنا سفك دمه أو انتهاك حرمته في الدنيا -نعوذ بالله مِن ذلك-.

ولا شك أن التوسع في هذا الأمر أدى إلى أنواع المخاطر التي تُهَدِّد المجتمعات المُسْلِمة، وهي في الحقيقة مِن البِدَع التي هي مِن ظَنِّ الجاهلية، لعدم وجود الدليل عليها، وبنائها على الجهل لا العلم.

وقد ذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- فصلًا رائعًا في "زاد المعاد" حول ظَنِّ الجاهلية، بَيَّن فيه شمولَ ذلك لأنواعٍ مِن البِدَع الاعتقادية سواء ما يكون كفرًا أو ما يكون بدعة.

نذكره في المقال القادم -بإذن الله-.