الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 21 يوليه 2018 - 8 ذو القعدة 1439هـ

السلفية والصوفية: نصحٌ بعلم، وحكمٌ بعدل (4)

 رد علمي على ورقة بعنوان: "السلفية والصوفية، عداء لا ينتهي وحرب دائمة الاشتعال!"

كتبه/ محمد إبراهيم السعيدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الصوفية والتقية:

السلفيون لا يتهمون الصوفية بالتقية -كما زعم صاحب الورقة!-؛ بل إن كبار الصوفية هم مَن يقرون بهذا الأمر، وقد كانت كتب الصوفية لا يطَّلع عليها إلا هم، أما اليوم فقد ظهرت كتبهم وانتشرت أقاويلهم وعرف الجميع حقيقتهم؛ ولذلك يحاولون اليوم التنصل منها تحت زعم أنها دعوى يدعيها عليهم السلفيون؛ وسأكتفي بنقل ثلاثة إقرارات لكبارهم؛ وإلا فالأمر يمكن التوسع فيه ونقل العشرات. 

روى الكلاباذي (ت380هـ) في كتاب "التعرف لمذهب أهل التصوف"عن الجنيد أنه قال للشبلي: "نحن حبَّرنا هذا العلم تحبيرًا، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ، فقال: أنا أقول وأنا أسمع، فهل في الدارين غيري" (التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 172).

ونقل الشعراني (ت 973هـ) عن الجنيد: "كان يستر كلام أهل الطريق عمَن ليس منهم، وكان يستتر بالفقه والإفتاء على مذهب أبي ثور؛ وكان إذا تكلم في علوم القوم أغلق باب داره، وجعل مفتاحه تحت وركه" (اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، ص 9302).

ونقل الشعراني أيضًا عن الشاذلي قوله: "امْتَنَعَتْ عنِّي الرؤيا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم رأيته، فقلت: يا رسول الله: ما ذنبي؟ فقال: إنك لست بأهل لرؤيتنا، لأنك تُطلِع الناس على أسرارنا" (الطبقات الكبرى للشعراني، 2 / 75).

فإذا كان الصوفية يقرون بالتقية، فماذا يفعل السلفيون؟!

فهذا هو الجنيد -وهو أمثل كبارهم- يتستر بالفقه ومذهب أبي ثور؛ فيا ترى ماذا كان يخفي؟!

الصوفية والخنوع:

زعم الباحث أن السلفية يرمون الصوفية بالخنوع تحت ذريعة العيش في مجتمع مدني، خلاف السلفية الذين يسعون لتكريس خطابهم وإعلاء كلمة الحق التي يجب أن تنازع الملك في السيطرة على قلوب المواطنين وعقولهم.

والرد على هذه المغالطة في نقاط:

الأولى: أن موقف السلفية منِ طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله -تعالى- مِن سد ذرائع الفتن، ومِن اعتبار مقاصد الشريعة ودرء المفاسد، موقفها مِن كل ذلك أشهر مِن أن يعرَّف به، بل إن السلفية هي التي أشهرت هذه المعاني في العصر الحديث؛ ولذلك لا تكاد تجد مؤلفات في هذا الباب في العصر الحاضر في هذه المعاني لغير علماء ودعاة السلفية، وقلَّما تجد -بل لعلك لا تجد- في هذا الباب مؤلفات ومحاضرات لغير علماء ودعاة السلفية؛ مما يؤكد بطلان مزاعم الباحث في كون السلفية تسعى لمنازعة الملك في السيطرة على عقول وقلوب المواطنين.

وسوف أذكر أمثلة لذلك: كتاب"طاعة أولي الأمر"للدكتور عبد الله بن إبراهيم الطريقي، وكتاب "الجماعة والإمامة" للدكتور محمد عمر بازمول؛ وكتاب "طاعة ولاة الأمر في السُّنة النبوية" للدكتور خالد بن إبراهيم الرومي، وغير ذلك مِن الكتب في هذا الباب كثير.

الثانية: السلفيون لا يحكمون على كل الطرق الصوفية بحكمٍ واحدٍ، بل هم أعدل وأعلم مِن ذلك، وقد كان لأتباع الطريقة السنوسية في مقاومة الاحتلال الإيطالي في أوائل القرن الماضي مواقف خلَّدها التاريخ، وهي محلّ ثناءٍ وإكبارٍ مِن السلفيين وغيرهم؛ ولذا استضافت السعودية -وهي في بداية تكوينها وأوج سلفيتها- قادة الجهاد مِن العائلة السنوسية، ولم تحل صوفيتهم دون إكرام السعودية لهم.

الذي يعيبه السلفيون على بعض الطرق الصوفية ليس الانسجام مع الدولة؛ بل الإغراق في البدع إلى حد يكون إثبات البدعة أولى مِن إقامة السُّنة، بالدرجة التي جعلت عددًا مِن الطرق الصوفية تتحالف مع الاحتلال الأوربي لبلادها في مقابل الاحتفاظ لهم بخلاويهم وزواياهم وحضراتهم، وأعطياتهم وموالدهم؛ وفي المقابل يسكت هؤلاء مِن الصوفية عن كل جرائم الاحتلال مِن قتل وتدمير، وتهجير واغتصاب؛ وقد ظهر هذا في أوضح صورة في الجزائر، حيث وقفت كثير مِن الطرق الصوفية مع المستعمر، وتألّبت ضد جمعية علماء المسلمين ومؤسسها الشيخ "عبد الحميد بن باديس" -رحمه الله-، وكادوا يقتلونه! (الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا، لأنور الجندي، ص 52).

فهذا هو الخنوع الذي لا يرضاه السلفيون، ولا يرضاه الله -عز وجل- القائل في كتابه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190)؛ فكيف بمَن يتعاون مع المحتل ويمكِّنه مِن أرضه وعرضه، ويعادي لأجله أخاه المسلم؟! فهذا والله أعظم الخنوع والذلة.

الثالثة: يجب التنبيه إلى أن قول السلفيين بوجوب الطاعة لولاة الأمر في المنشط والمكره، والعسر واليسر؛ ليس خنوعًا أو استسلامًا أو ذلة؛ بل هو استجابة لأمر الله -تعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ وهو مشروط بكونه في غير معصية؛ أما في حال الأمر بالمعصية فإن الحاكم ليس له طاعة بخصوص تلك المعصية التي أمر بها، وارتفاع لزوم الطاعة له في هذه المعصية لا يعني ارتفاع حقّه في الطاعة مطلقًا، بل هو مستحق لها في غير خصوص تلك المعصية؛ كما أن ذلك لا يعني الخروج عليه أو التأليب.

أضف إلى ذلك: بقاء حق النصيحة له واجبًا؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم).  

الصوفية والتسول:

يزعم الباحث أن السلفيين ينتقدون الصوفية على حياتهم التي لا تليق بالمسلم الحق، والمتسمة بركون الهمّة والذل، والضعف، والزهد في الحياة.

ونقول هنا: نعم السلفيون لا يحبون هذا النوع مِن الحياة؛ لأنها حياة رهبانية نهى الله عنها، كما أنها بعيدة عن الزهد الذي اتصف به سلف الأمة اتباعًا للرسول -صلى الله عليه وسلم-.

ومع ذلك فإن هذه الصفة تُعد اليوم تاريخية في تعلّقها بالصوفية؛ إذ لم تعد هذه الحالة عندهم بشكلٍ كبيرٍ كما كانت عليه قبْل عقود، وأصبح منهم اليوم أهل ثراء ودنيا، ومناصب اجتماعية وسياسية، وغيرها.

الصوفية والقوة المعطلة:

يزعم الباحث: أن السلفيين يرون أن الصوفية قوة معطلة، ويريدون استغلالها أو القضاء عليها؛ وعلل الباحث ذلك بأن هذا حتى يحتلوا المشهد الديني وحدهم ليتفرغوا لمواجهة الدولة، وتحقيق أهدافهم في مواجهة الدولة، وهو ما حدث في عهد الرئيس المعزول "مرسي"، وهذا الكلام مِن الباحث يرسله دون أمثلة ودون أدلة!

وهنا نأتي بالتفصيل والتدليل فنقول:

ليس السلفيون هم مَن يرون أن الصوفية قوة معطلة، بل هناك نصوص كثيرة مِن تعاليم الصوفية، وأحوال مِن تاريخ وتراجم رؤوسهم تؤكد أن مِن درجات التصوف العليا ترك الدنيا، وترك العمل والسعي في الرزق.

وسوف أكتفي هنا بنصّين، وهما:

قال القشيري (ت 465هـ): "وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: والزهد أن تترك الدنيا كما هي، لا تقول: أبني بها رباطًا أو أعمر مسجدًا!" (الرسالة القشيرية، 1/ 324).

وقال الغزالي: "وإن كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس، ولا متطلع إلى مَن يدخل مِن الباب فيأتيه برزقه، بل تطلعه إلى فضل الله -تعالى- واشتغاله بالله، فهو أفضل" (إحياء علوم الدين، 4/ 267).

وأمثال هذه الأقوال كثيرة في التراث الصوفي، وهذا الانعزال وترك الدنيا والانهماك في الرهبانية المبتدعة والبدع الظاهرة، ليس مما دعا إليه الإسلام، ولا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والأدلة على ذلك في الكتاب والسُّنة أظهر مِن أن تُحصى، وبذلك تعلم أن السلفيين ليسوا هم مَن يقول: "إن الصوفية معطلون"، بل ذلك ما يقوله رؤوس الصوفية عن طريقتهم.

أما لماذا ينقم السلفيون هذا السلوك مِن كثيرٍ مِن المتصوفة؟!

فلسببٍ واضح وصحيح، وبعيد عن السياسة، وهو أن الصوفية ينسبونه للإسلام والتدين، وفي هذا تزييف للدين وتشويه له، ولا يسع السلفيون السكوت عن بدعة تُنسب للدين وهي ليستْ منه، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، وعنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، فنفي التحريف والانتحال والتأويل عن الدين مِن صفات العدول، كما في الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ما يقوم به السلفيون ويدعون الناس إليه.