الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 18 يونيو 2018 - 4 شوال 1439هـ

التغيير الذي نحتاج!

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأنفسنا تُحدِّثنا بتغيير هائل في نظام العالم؛ حتى يعود الإسلام إلى أن يحكم حياة الناس، ويعود المسلمون إلى بلادهم المغتصبة ناحية بيت المقدس، ويجاهدون في سبيل الله لتحرير البشرية مِن العمى والصمم الذي يفرضه طواغيت الأرض وقوى الشر في العالم عليها، حتى شوهوا صورة الإسلام عند الجماهير؛ حتى صارت لا ترى الإسلام إلا في "داعش" و"القاعدة"، والقتل والحرق والدمار!

تُحدِّثنا أنفسنا بتغيير يستلزم خَرْقًا لموازين القوى في العالم -عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا واجتماعيًّا- وهو ليس ببعيدٍ على الله؛ فقد فعل -سبحانه- في الأمم قبلنا كما قال: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء:6-7)، رغم أن الهزيمة التي كانت قد حَلَّت بهم كانت أعنف بكثيرٍ مما أصاب الأمة الإسلامية؛ فهزيمة تضمنت هدم المسجد الأقصى، وسبي جميع بني إسرائيل، وضياع نسخ التوراة كلها، والتدمير التام لبلادهم، أشد بكثيرٍ مما أصابنا، ومع ذلك غَيَّرَ الله لهم الموازين لما أحسنوا وأعطاهم وأمَدَّهُم بالقوة الاقتصادية (الأموال)، والقوة البشرية (البنين)، والقوة العسكرية (النفير)؛ فانتصروا وعادوا لبلدهم، وبنوا مسجدهم.

نقول: هذا ليس ببعيدٍ على الله، لكن: هل حققنا التغيير المطلوب في أنفسنا؟!

هل اقتربنا مِن حال الأنبياء وأخلاق الأنبياء، وأقوال الأنبياء التي قَصَّهَا اللهُ علينا في القرآن بطريقةٍ مبهرةٍ غاية في الوضوح؟!

هل استحضرنا معية الله في جميع المواقف كما استحضروها؟!

تَأَمَّلْ حالَ يعقوب -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ في سورة يوسف لم يُذكر موقفٌ مِن المواقف عبْر حياته إلا وذُكر فيها حالُه مع الله، وذِكْرُه له، وتَعَلُّقُه به.

- في جلسته مع ولده الحبيب يوسف -عليه السلام- في شأن رؤياه: (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 5-6).

ويوم أن أبلغوه أن ابنَه أَكَلَهُ الذئب: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18).

- ويوم أن طَلَبُوا ذهاب بنيامين معهم وإلا مُنِعوا الكيل: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف:64).

- ويوم أخذ عليهم الموثق مِن الله: (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ . وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف:66-67).

- ويوم أن أتاه خبر أَخْذِ ابنه بنيامين لأجل السرقة وانتظارِ الابن الآخر في مصر: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ . قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ . قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:83-87).

وتَأَمَّلْ حالَ موسى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-:

- حين قَتَلَ الفرعوني: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص:15-17).

- وحاله حين خرج مِن مصر: (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص:21).

- وحين سار في طريقٍ لا يعرفه: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22).

- ولما وصل لمدين جائعًا، بلا مأوى ولا مَسكن ولا عمل، ومع شدة التعب سقى للمرأتين؛ رِعايةً للضعيف ومُروءةً مع المحتاج، ورجولةً مع الأنثى حين ضيعها الناس ثم قال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24).

- وحين تزوج: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:28).

- ثم في سماعه كلام الله ودعائه: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي . وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي . هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي . كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا . إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا) (طه:25-35).

- وفي مواجهة فرعون وفي مواجهةِ السَّحَرَة: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ . وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:81-82).

وغير ذلك كثير...

وكذلك حال النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:

- في ليلة بدر: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) (الأنفال:9).

- وفي هزيمة "أُحد": جاء في الحديث لما قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَا تُجِيبُوا لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا (اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ)، ولما قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَلَا تُجِيبُوا لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا (اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ) (رواه البخاري).

- وفي ليلة الأحزاب يُصَلِّي طول الليل؛ فأُعْطِي النصر في الصلاة، وهزم الله الأحزاب وحده.

هل تغيرنا في عبادتنا وعقيدتنا حتى لا تكون مُجَرَّدَ كلام يُقال؛ بل إيمانًا صادقًا، وحالًا راسخًا، وقلبًا مُتَعَلِّقًا بالله وحده يحقق إياك نعبد وإياك نستعين؟!

هل تغيرنا في أخلاقنا مع أهلينا وأولادنا وجيراننا وأصحابنا وإخواننا وكل مَن نعاملهم وندعوهم؟

والله، نحن في حاجةٍ إلى تغيير حقيقي أضعاف ما تغير فينا؛ لأنه في جزءٍ كبيرٍ منه تغيير شكلي؛ لذا لم يتأثر به المجتمع؛ ومُحَالٌ أن تتغير موازين العالم مِن أجل مجتمع كمجتمعاتنا!

إن النصر لا يحصل بوجود أفرادٍ صالحين -ولو كانوا أنبياء- حتى توجد الطائفة المؤمنة؛ فإن وجود موسى وهارون -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- في بني إسرائيل القائلين لموسى -عليه السلام-: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24)، لم يُحَقِّقْ دُخُولَ الأرض المقدسة واستعادتها، بل حُرمت عليهم أربعين سنة لفسقهم، ومات هارون وموسى -عليهما السلام- في زمن التيه، حتى نشأت طائفة مؤمنة مع يوشع بن نون؛ ففتح "بيت المقدس".

لابد أن نتغير بالقرآن في رمضان وبعد رمضان، ونقترب، ونتقرب إلى الله -سبحانه-، ونقترب مِن حال الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين؛ حتى نكون مثلهم ومعهم، فيغير الله ما بنا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).