الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 04 فبراير 2018 - 18 جمادى الأولى 1439هـ

أصحاب منابر النور!

كتبه/ محمد صلاح الإتربي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فـ"منابر النور" ليس عنوانًا مِن وحي خيال الكاتب، وكذلك ليس تشبيهًا بلاغيًّا، ولا مبالغة لفظية!

أبدًا، والله! بل هي حقيقة واقعة -بإذن الله تعالى-.

أجل، فهناك يوم القيامة منابر مِن نور يقف عليها أناس يغبطهم الأنبياء والصديقون والشهداء أجمعون، على هذه المنزلة، وهذا القرب مِن الله -تعالى-!

إي والله! هذا ما أخبرنا به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.

فتُرى مَن هم هؤلاء الناس؟!

روى الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى ذات مرة، فلما قضى صلاته أقبل إلى الناس بوجهه، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ، النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ). فَجَثَى رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ -أي أشار بيديه- إِلَى نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ انْعَتْهُمْ لَنَا حَلِّهُمْ لَنَا، يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا، شَكِّلْهُمْ لَنَا، فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ تَحَابُّوا فِي اللهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).

يا الله! يجعل الله (وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)!

كل هذا لأنهم فقط تحابوا في الله؟!

وقد تقول أيها القارئ: ما أيسر هذا إذن!

وأقول لك: كلا! أَوَتظن أن هذا كله يناله هؤلاء بيسير مِن القول يُقال؟!

أو بيسير مِن الفعل في زمن الرخاء؟!

كلا والله! إن عبادة الحب في الله عبادة عظيمة جليلة، قلَّ مَن يوفيها حقها اليوم، بل وقبْل اليوم!

الحب في الله هو أن تحب الشخص لا تحبه إلا لله، تحبه لطاعته وعبادته، لا لأجل دنيا تريدها منه، ولا لأجل مصلحة تبغيها منه.

وهذه العبادة -الحب في الله- درجات ورتب، ولها حقوق وواجبات، ومفسدات ونواقض؛ فهي ليستْ مجرد كلمة تقولها ثم تنتظر أن تكون على منابر النور!

وحتى لا أطيل عليك: دعني أبسِّط لك الأمر: جاء رجل إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال: "إني أريد أن أؤاخيك في الله، فقال له: هل تعلم ما هو حق الأخوة؟ فقال الرجل: علمني. فقال له: أن لا ترى أنك أحق بمالك مني! فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة بعد!".

ومَن تتبع الأحاديث النبوية يجد عجبًا في هذا الباب: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا أن الله -تعالى- أرسل ملكًا لرجل يخبره أن الله أحبه؛ لأنه أحب رجلًا في الله وقام بزيارته! ويخبرنا أن مِن الثلاثة التي يجد بها العبد حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ويأمر مَن أحب أحدًا في الله أن يخبره أنه يحبه، ويخبرنا أنه من أوثق عرى الإيمان.

ويخبرنا أن مَن دعا لأخيه في الله بظهر الغيب أمَّنت الملائكة على دعائِه، وقالت له: "ولك بمثله".

ويجعل مشي الرجل في حاجة أخيه ليقضيها له بمثابة الاعتكاف للعبادة شهرًا، بل أفضل، ويخبرنا أن ممَن يظلهم الرحمن بظل عرشه رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، بل كان المتحابان في الله يرث بعضهما البعض في أول الإسلام ثم نسخ ذلك.

هذا كله وغيره... يدعونا لأن نتبيَّن حقيقة هذه العبادة، وكيفية الإتيان بها على صورتها الحقة، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة مراتبها وواجباتها ومفسداتها.

ولعلنا نفرد مقالاً لكل منها في قابل الأيام، والله المستعان.