الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 02 نوفمبر 2017 - 13 صفر 1439هـ

الذكرى المئوية لــ"وعد بلفور!"

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد صار مِن المعلوم للقاصي والداني أن منطقتنا العربية تتعرض إلى مخططاتٍ يقودها مِن وراء ستار، الغرب وأمريكا؛ لإعادة تقسيم البلدان العربية مِن جديدٍ لإضعافها فوق ما هي عليه مِن ضعف، ولتمزيقها فوق ما هي عليه مِن تمزقٍ، ولمنع فرص توحدها رغم ما هي عليه مِن تشتتٍ لا يُرجى معه اتحاد!

ومع ذلك فما زلنا نعاني مِن جهلنا بتاريخنا بالقدر الذي يمكننا مِن التعامل مع هذه المخططات، ونحن نوافق مرور قرنٍ مِن الزمان على سابقة تقسيم المنطقة العربية إلى كياناتٍ تفصلها حدود سياسية مصطنعة، وضعها الغرب بعد إسقاطه للدولة العثمانية التي كانت تجمع المنطقة كلها في وحدةٍ واحدة، وتدفع عنها أطماع الأوربيين.

مرَّ قرنٌ على "الثورة العربية" على تركيا، والتي مكَّنت بريطانيا مِن دخول القدس ودمشق، وعلى معاهدة "سايكس - بيكو" التي طعنتْ بها بريطانيا مَن وثق بها وبعهودها مِن العرب، وعلى "وعد بلفور" الذي وفـَّتْ به بريطانيا للحركة الصهيونية واليهود، بمباركةٍ مِن الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى!

وأظن أن الكثيرين لا يعلمون عن هذه الأحداث الجسام إلا أسماءها؛ رغم أنهم يحتاجون إلى أن تكون أمام أعينهم ليل نهار، وهي تتكرر أمامهم بأسماءٍ جديدة، فغاب عنهم مع اختلاف الأساليب أن الهدف واحد، حتى ظنوا أن عدوهم يساعدهم، وهو يكيد بهم كما كاد بمَن سبقهم؛ فهلا استفدنا مِن التجربة حتى لا تحاسبنا الأجيال القادمة على سوء صنعنا!

وفي الذكرى المئوية لـ"وعد بلفور" في نوفمبر 2017م أكتب للتذكير به وبآثاره فقراتٍ مختصرة، وهي وإن لم تعطِ الموضوع حقه، لكنها الحد الأدنى الذي يجب أن يعرفه المرء، وما لا يُدرك كله لا يُترك كله، ولعلها تكون دافعًا للاستزادة لمَن أراد الزيادة.

أسأل الله -تعالى- أن يهيئ للأمة أمر رشد، ويحفظها مما يدبر لها، ويهديها إلى سواء السبيل، ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد.

"وعد بلفور":

في 2 نوفمبر 1917م، صدر "وعد بلفور" الذي تتعهد فيه الحكومة البريطانية بالسعي لإقامة وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، وهو الوعد الذي كان مع اتفاقية "سايكس بيكو" في مايو 1916م -مِن قبله- الأساس الذي بنتْ عليه إنجلترا جهودها لتمكين اليهود مِن إقامة دولتهم (إسرائيل) في فلسطين؛ لذا كان هذا الوعد نقطة تحول كبيرة في القضية الفلسطينية.

اتفاقية "سايكس بيكو":

في إطار النظرة الاستعمارية الأوروبية خططت إنجلترا وفرنسا خلال الحرب العالمية الأولى لتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية العربية فيما بينها حال هزيمة دول المحور (ألمانيا والنمسا وتركيا)، فكانت المفاوضات بيْن وزير خارجية بريطانيا "مارك سايكس"، ووزير خارجية فرنسا "جورج بيكو" السرية التي أدت إلى (اتفاقية سايكس بيكو) لتقسيم المنطقة العربية بعد هزيمة تركيا، والتي وافقتْ عليها روسيا القيصرية، واُستكملت بانضمام إيطاليا لها في اتفاق (سان دو دوريان)، حيث تم الاتفاق على تقسيم المنطقة العربية بحيث:

- توضع سوريا الكبرى (سوريا ولبنان حاليًا) بالإضافة إلى الموصل (في العراق) تحت الحكم الفرنسي.

- توضع العراق ومنطقة شرق نهر الأردن تحت الحكم البريطاني.

- تدويل معظم فلسطين، لحساسية موضع فلسطين في المنطقة، مع وضع مرفأي: "حيفا وعكا" تحت الحكم البريطاني.

وقد جاءتْ موافقة بريطانيا على تدويل فلسطين في مفاوضاتها مع فرنسا كحل وسط مرحلي، لحين توفر الظروف المناسبة لبسط نفوذها على كل فلسطين؛ إذ إن تدويل فلسطين يمنع ضمها للانتداب الفرنسي، خاصة وأن فرنسا تهتم بحماية الأماكن الكاثوليكية المقدسة، ونصارى الشام أبناء المذهب الكاثوليكي، ولها امتيازات مِن الدولة العثمانية في ذلك.

وهذا يعني كذلك إبعاد فرنسا عن قناة السويس بموقعها المميز وأهميتها الملاحية، كما أن روسيا القيصرية تعتبر نفسها حامية للأرثوذكس في الشرق؛ فلن تقبل بدورها سيطرة منفردة مِن بريطانيا أو فرنسا على فلسطين.

- وأعطى الاتفاق روسيا القيصرية شمال شرق الإمبراطورية التركية، ولهذا تركت إنجلترا الموصل لفرنسا؛ لئلا يكون لها حدود مشتركة مع روسيا.  

فلما قامت الثورة البلشفية في روسيا وسقطت القيصرية، وعلم البلاشفة بأمر اتفاقية (سايكس بيكو) فكشفوها في خريف 1917م، وانسحبوا مِن الحرب ثم مِن مفاوضات السلام بعد انتهاء الحرب، ثم تمكنتْ إنجلترا مِن الوصول إلى فرض انتدابها على فلسطين كلها، حيث قبلت فرنسا ذلك في مقابل موافقة إنجلترا على شروط فرنسا القاسية للصلح مع ألمانيا المهزومة بما يوافق مصالح الأمن الفرنسي، وهي الشروط التي تجسدت في معاهدة "فرساي"، وكانت أحد أسباب صعود النازية في ألمانيا؛ حيث أقام "هتلر" دعوته القومية على رفض معاهدة "فرساي" المفروضة على ألمانيا.

اهتمام إنجلترا بالسيطرة على فلسطين:

كانت إنجلترا تنظر بأهمية لفلسطين -والمنطقة العربية- لتأمين الطريق البحري والبري إلى مستعمراتها الهندية، ولهذا وضعت يدها على شركة قناة السويس بشراء أسهم الخديوي إسماعيل عام 1875م لتصبح هي المساهم الأساسي في شركة القناة، ثم سيطرت على مصر واحتلتها في عام 1882م، وأعلنت الحماية عليها مع بدء الحرب العالمية الأولى عام 1914م، بالإضافة إلى بسط نفوذها على جنوب الجزيرة العربية، كما حصلت لندن على أول حق لاستخراج النفط في إيران عام 1909م؛ لذا كان مد بريطانيا نفوذها إلى فلسطين -القريبة مِن قناة السويس- يؤمِّن لبريطانيا تمامًا مصالحها في المنطقة.

تطلع الحركة الصهيونية إلى فلسطين:

نشأت الحركة الصهيونية الحديثة على يد "هرتزل" في 1897م لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وتعددت مساعي زعماء الحركة الصهيونية بحثًا عن هدفها، وكانت بريطانيا أحد المحاور التي حاول زعماء الحركة الصهيونية استمالتها إلى صفها لمساعدتها، وكللت تلك الجهود بإقناع الحكومة البريطانية -رأس الاستعمار القديم- بإقامة دولة لليهود في فلسطين تكون راعية للمصالح البريطانية مِن جهة، وحلًا لمشاكل اليهود في أوروبا بهجرة اليهود الجماعية إليها مِن جهة، وخنجرًا في المنطقة العربية يستنزفها ويعرقل مسيرتها، فتظل في حالة تسمح دائمًا بسلب خيراتها والتحكم في مقدراتها، فكان "وعد بلفور".  

دور "حاييم وايزمان" في ظهور "وعد بلفور":

سعى "حاييم وايزمان" أحد زعماء الحركة الصهيونية الحديثة للحصول على وعدٍ مِن بريطانيا بإقامة دولة لليهود في فلسطين مِن خلال بناء شبكةٍ مِن العلاقات السياسية في لندن مع صناع القرار البريطاني، حيث قام المكتب الصهيوني في لندن بالاتصال بالعديد مِن المسئولين البريطانيين اليهود وغير اليهود، منهم:

- (هيربرت صموئيل): وهو بريطاني يهودي، تسلم وزارة الداخلية البريطانية في عام 1916م، ثم أصبح بعد ذلك أول مندوب سامي لبريطانيا في فلسطين بعد فرض الانتداب البريطاني عليها.

- (لويد جورج): أحد زعماء الحزب الليبرالي البريطاني، الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للذخائر ثم وزيرًا للحربية، ثم تسلم رئاسة الحكومة عام 1916م ليقود بريطانيا في أوج الحرب العالمية الأولى، ثم يقود مفاوضات السلام بعد انتصار الحلفاء، وفي خلال رئاسته للحكومة صدر "وعد بلفور"، وأدخل الوعد ضمن وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين، ونال موافقة (عصبة الأمم) عليه، وتقبلته الدول الكبرى الحليفة لبريطانيا، ومِن ثَمَّ أدخل حيز التنفيذ!

- (أرثر جيمس بلفور): الذي حمل الوعد اسمه، وكان رئيسًا سابقًا للحكومة البريطانية، ثم وزيرًا للخارجية في حكومة الحرب التي رأسها "لويد جورج".

- (مارك سايكس): الخبير في شئون الشرق الأوسط، والذي أصبح أمينًا عامًّا لحكومة الحرب، وكان حلقة الاتصال بيْن المكتب الصهيوني في لندن والحكومة البريطانية، وشارك في المفاوضات مع فرنسا وروسيا القيصرية.

ومما ساعد على ارتفاع منزلة (وايزمان) عند الحكومة البريطانية توصله مِن خلال تجاربه الكيميائية مِن صنع "مادة الأسيتون" عن طريق التخمير الجرثومي، وكانت تستخدم وقتها في صنع المواد المتفجرة التي كانت تستخدمها القوات البحرية البريطانية، وعن طريق تصنيع الأسيتون دخل (وايزمان) كمستشار في وزارة البحرية، وكان وزير البحرية وقتها (ونستون تشرشل)، وكمستشار في وزارة الذخائر التي كان وزيرها وقتها (لويد جورج)، وهو في طريق صعوده إلى رئاسة الحكومة، وقد ذكر (لويد جورج) في مذكراته أن أحد أسباب دعمه للمشروع الصهيوني مساهمة "وايزمان" في إنتاج الأسيتون.

(حاييم وايزمان):

يهودي مِن مواليد روسيا البيضاء عام 1874م، انتقل كأستاذ مساعد إلى جامعة مانشستر ببريطانيا بعد حصوله على درجة الدكتوراه في العلوم، بعد دراسة في ألمانيا وسويسرا، وعمل كمدرسٍ للكيمياء في جامعة جينيف، وشارك "وايزمان" بعد تأسيس الحركة الصهيونية الحديثة في كل المؤتمرات الصهيونية، وكان ممن رفضوا عرض "هرتزل" قبْل وفاته بإقامة دولة لليهود في أوغندا، وتمسك كغالبية اليهود الروس والشرقيين بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، ولدوره الكبير أصبح رئيسًا للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1920م، ثم رئيسًا للوكالة اليهودية عام 1929م، ثم صار أول رئيس لإسرائيل بعد إعلان قيامها في مايو 1945م إلى أن توفي عام 1952م.

وسعت بريطانيا إلى تحقيق مصالحها في المنطقة العربية، فتعاملتْ خلال فترة الحرب العالمية الأولى مع كل الأطراف ذات المصالح المختلفة -وهي مصالح متناقضة الأهداف- في المنطقة مِن منظورٍ يوافق مصالحها الخاصة القريبة والبعيدة، كدولة استعمارية تتزعم الاستعمار القديم في تلك الفترة؛ ففاوضتْ فرنسا بشأن تقسيم المنطقة العربية سرًّا، وأدت المفاوضات إلى اتفاقية "سايكس - بيكو" بما يؤمِّن طرقها البرية والبحرية إلى مستعمراتها في الهند.

وفاوضت "الشريف حسين" شريف مكة في الحجاز بنفوذه الديني والسياسي، وتبنيه للحركة القومية العربية، وعلاقته بجمعياتها السرية في سوريا ولبنان لمساندة الحلفاء ضد تركيا -دولة الخلافة!- في مقابل تحقيق أمانيه في تكوين دولة عربية كبيرة تضم الحجاز والشام والعراق، وهو ما أدى إلى قيام الثورة العربية ضد تركيا، ودخول الحلفاء بمساندة "الشريف حسين" للقدس ودمشق!

لقد أدركتْ بريطانيا أن مِن مصلحتها اجتذاب العرب بثقلهم البشري والعسكري، وزعامة "الشريف حسين بن علي" لفتح جبهةٍ جديدة ضد تركيا في المنطقة العربية تقضي على الحاميات العربية في الجزيرة العربية؛ مما يؤثـِّر سلبيًّا على تركيا في حربها ضد إنجلترا، وقد تم ذلك مِن خلال تبادل رسائل سرية مع المندوب السامي في مصر (هنري مكماهون) مِن يوليو 1915م، وانتهت برسالة مِن (مكماهون) في 24 أكتوبر 1915م تعد فيها "الشريف حسين" بالاستقلال العربي ضمن الحدود التي طلبها "ومنها قطعًا فلسطين".

وقد سبق (وعد مكماهون) في نهاية عام 1915م وعد "بلفور" لليهود في نوفمبر 1917م، وترتب عليه إعلان الثورة العربية في الحجاز في 10 يونيو 1916م، وواكب ذلك عقد اتفاقية "سايكس - بيكو" في مايو 1916م لتقسيم الشام والعراق بيْن إنجلترا وفرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا فيها، وهذا ما كان.

ونكثت بريطانيا بوعدها "للشريف حسين" ولم تعترف به إلا ملكًا على الحجار فقط، واقتسمت الشام والعراق مع فرنسا، وسعت للوفاء بوعد "بلفور" لزعماء الحركة الصهيونية!

لقد وعدتْ بريطانيا "الشريف حسين" وهي لا تنوي الوفاء بوعدها كما يريد، إذ كانت تدرك أنها تستطيع بسهولة القضاء على الحركات القومية العربية ونزعتها الاستقلالية بقوة السلاح؛ لضعف العرب مِن جهةٍ، ولعدم وجود علاقات دولية لهم تدعمهم أمام أطماع بريطانيا خاصة بعد هزيمة تركيا الحامية لهم.

وفي المقابل: رأت بريطانيا أن اليهود وحركتهم الصهيونية يمكن أن يكونوا الحليف الأضمن لهم في المنطقة العربية مِن العرب إذا أقامت لهم دولة يهودية في فلسطين؛ إذ أنها سترعى "مصلحة بريطانيا" في المنطقة خاصة في قناة السويس، كما كان يزين لهم زعماء الحركة الصهيونية؛ فالدولة اليهودية في المنطقة وُجدت لتكون عميلًا مزدوجًا يحقق أطماع اليهود في فلسطين، ويخدم مصالح بريطانيا والغرب في المنطقة العربية.

فهذا "هرتزل" يقول في كتابه (الدولة اليهودية): "بالنسبة لأوروبا سنقيم هناك -أي في فلسطين- جزءًا مِن السور المضاد لآسيا، وسنكون حراس الحضارة المتقدمي الموقع ضد البربرية".

ومِن بعده يكتب "حاييم وايزمان" في رسالة له عام 1914م: "إذا كان لفلسطين أن تقع ضمن منطقة النفوذ البريطاني، وإذا شجعت بريطانيا على إقامة مستعمرة يهودية فيها تابعة للتاج البريطاني، فيمكن أن يصبح هناك في فلسطين مِن الآن إلى 20 أو 30 عامًا مليون يهودي أو أكثر سوف يشكلون قوة حراسة فعالة لقناة السويس".

وفي جلسة يوم "3-9- 1917م" تم عرض مشروع قرار "وعد بلفور" على الحكومة البريطانية، ولم يتم إقراره في هذه الجلسة، ولكن بعد فترة مِن التشاور وضع فيها "لويد جورج" رئيس الحكومة و"أرثر بلفور" وزير خارجيته كل ثقلهما لإصدار القرار، تمت الموافقة في جلسة "31- 10-1917م" على صيغةٍ أخيرة للقرار لإعلانه، وتكليف وزير الخارجية "بلفور" بالإعلان عنه بالشكل الملائم.

وبعد يومين "أي في 2-11-1917م" وجَّه "بلفور" رسالة موجهة إلى اللورد اليهودي الصهيوني البريطاني "روتشيلد" صاحب المكانة المعروفة بيْن يهود بريطانيا ويهود الغرب، جاء في ترجمة نصها:

"عزيزي اللورد روتشيلد:

يسرني أن أوجِّه إليك مِن قِبَل حكومة صاحب الجلالة الإعلان التالي الذي يعبِّر عن تعاطف الحكومة مع الأماني الصهيونية، وقد وافق عليه المجلس الوزاري بعد عرضه عليه: (إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطنٍ قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهودها لبلوغ هذه الغاية، مع العلم الواضح أنه لن يتم الإقدام على أي عملٍ مِن شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والوضع السياسي التي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.

أرجو منك مع الامتنان أن تبلغ هذا الإعلان إلى الاتحاد الصهيوني.

أرثر جيمس بلفور)".

ولا شك أن صدور هذا الوعد الغريب في هذا الوقت وبهذه الكيفية مما يبعث الكثير مِن التعجب والتساؤل، وتزداد غرابة الأمر بإصرار بريطانيا بعد ذلك على تنفيذ هذا الوعد مع أنه مِن الناحية القانونية مجرد عرض نوايا مِن الحكومة البريطانية، ليس له أي قيمة قانونية، بل هو باطل مِن الناحية القانونية حيث إن فلسطين عند صدور الإعلان لم تكن تحت النفوذ البريطاني بعد، ويسكنها نحو 700 ألف فلسطيني، منهم 70 ألف مِن النصارى العرب، ومنهم 50 ألف يهودي أغلبهم مِن اليهود العرب واليهود الشرقيين، إذ لم يكن يهود أوروبا قد تحمسوا بعد للهجرة إلى فلسطين، وباقي السكان وعددهم 580 ألف كانوا مِن المسلمين العرب، الذين هم أصل البلاد وممتلكوها، الذين عاش آباؤهم وأجدادهم فيها مِن قرونٍ طويلة بلا انقطاع!

يقول (روجيه جارودي) في كتابه (ملف إسرائيل ص122): "ويجدر بنا أن نتذكر سرًّا هامًّا وهو أنه عندما تم تصريح بلفور لم يكن اليهود يملكون مِن الأرض غير 2.5 %، وعندما صدر قرار التقسيم -يعني في عام 1947م- كان لديهم 6.5 %!".

بينما كان اليهود عند صدور "وعد بلفور" جماعات متفرقة في شتى بقاع الأرض.

أي أعطت بريطانيا أرض الشعب الفلسطيني التي لا تملكها إلى مَن لا يستحقها بلا وجه حق؛ خدمة لمصالحها، ومصالح الحركة الصهيونية، التي لم تكن لها شأن كبير في ذلك الوقت، أي قايضت بريطانيا أرض فلسطين في مقابلة رعاية اليهود بعد إقامة دولتهم فيها لمصالح بريطانيا في المنطقة العربية، وفي قناة السويس، فكان كما قيل" "أعطتْ ما لا تملك لمَن لا يستحق!".

وساعدتها في ذلك فرنسا بتنفيذ (اتفاقية سايكس بيكو)، ثم فرنسا والدول الاستعمارية الكبرى بفرض نظام الانتداب على الشعوب العربية التي خرجتْ مِن النفوذ التركي -ومنها الانتداب البريطاني على فلسطين- ليكون صورة مغلفة مِن الاحتلال الأوروبي لها، ثم إدخال "وعد بلفور" في صلب وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين في عصبة الأمم لتمكين اليهود مِن الهجرة الجماعية إلى فلسطين واتخاذها وطنًا لهم!  

وتدل صياغة "وعد بلفور" على أنها كتبت بعنايةٍ ودقةٍ لتمكين اليهود الصهاينة مِن أرض فلسطين، وهذا واضح مِن تتبع عباراتها؛ إذ لكل منها مغزى متعمد، وغاية ترمي إلى تحقيق هدف بريطانيا دون إثارة العقبات في طريق هذا الهدف مِن بدايته، وهذا يلاحظه كل مَن يقرأ هذه الصياغة بتأنٍ، ويربط ما قرأه بما قامتْ به بريطانيا بعد ذلك لتنفيذها وعدها.

فمِن ذلك:

- لماذا وجّهت الرسالة إلى اللورد "روتشيلد" ولم توجَّه إلى المنظمة الصهيونية العالمية أو إلى "حاييم وايزمان" الذي لعب دورًا بارزًا في صدور هذا الوعد؟!

والجواب: أنه لم يكن ممكنًا أن يتخذ "وعد بلفور" شكلًا آخر؛ فهو لا يمكن أن يتخذ شكل المعاهدة أو الاتفاق الدبلوماسي؛ لأنه مِن جهةٍ لم تكن فلسطين وقتها تحت الحكم البريطاني، بل كانت لا تزال ضمن نفوذ السلطة العثمانية، فلم يكن بإمكان بريطانيا صياغة معاهدة أو اتفاق دبلوماسي حول أرض لا سلطة لها عليها.

ومِن جهةٍ أخرى: فإن كل معاهدة أو اتفاق رسمي يكون بيْن طرفين رسميين؛ فأين الطرف الرسمي الثاني؟!

في هذه الحالة لم يكن بإمكان الحكومة البريطانية التعامل الرسمي مع المنظمة الصهيونية كممثلٍ شرعي ليهود العالم، ما دامت تلك المنظمة لم تكن تمثـِّل وقتها إلا أقلية محدودة مِن اليهود تبنت الفكرة الصهيونية، وما زالت الأكثرية مِن اليهود ضدها؛ إضافة إلى ذلك: كانت المنظمة الصهيونية تدعى الانقسام على نفسها بيْن لجنتها التنفيذية في برلين ثم كوبنهاجن التي كانت على اتصالٍ دائمٍ بالألمان، وبيْن مكتب لندن الملتزم بالرهان على بريطانيا.

ومِن هنا: ارتدى "وعد بلفور" شكل البيان الموجَّه مِن وزير بريطاني إلى شخص يهودي بريطاني له وزنه بسبب لقبه واسم عائلته ومكانته المعروفة لدى يهود بريطانيا ويهود العالم مِن أجل تقوية مكانة الحركة الصهيونية أمام يهود العالم، أي إخراج الوعد مِن النطاق الصهيوني الضيق وقتها، ومحاولة إعطائه بُعدًا يهوديًّا دوليًّا، فكان اللورد "روتشيلد" الغطاء المناسِب لذلك (راجع تاريخ المسألة الفلسطينية، للأستاذ فيصل أبو خضرا، ص 79- 87).

- أما لماذا ذكر الوعد: (إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين) ولم يقل: (إقامة دولة) كما دعا "هرتزل"؟! فهذا غموض وتمويه متعمد نحو تحقيق الهدف، فالدولة تعني سيادة على الأرض وحكم وإدارة، وهذا يثير تركيا التي تدخل فلسطين في نفوذها، ويخيف الفلسطينيين العرب، بل يخيف اليهود الذين اندمجوا أو يريدون الاندماج في الأوطان التي يعيشون فيها في أوروبا وأمريكا، ولم يتبنوا بعد الفكر الصهيوني وهم أكثر اليهود وقتها، فكلمة وطن تنفي هذه المحاذير، ويمكن أن تستعمل بأكثر مِن معنى.

- أما وصف اليهود بأنهم (شعب) مع كونهم متفرقين مشتتين، منهم: الروسي، ومنهم: الأوروبي، ومنهم: الأمريكي، ومنهم: العربي اليمني أو المغربي أو المصري؛ لا يجمعهم إلا الانتماء لليهودية! وفي المقابل وصف الفلسطينيين العرب أصحاب الأرض بـ(الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين) ولم يعتبرهم شعبًا! وهم على أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم، وتجمعهم روابط عديدة مِن اللغة والدين والتاريخ، والعادات والتقاليد، والقيم الاجتماعية الواحدة، ما لا يوجد عند هؤلاء المراد جمعهم مِن شتات الأرض، ويشير إلى الحقوق المدنية والدينية لهذه الطوائف غير اليهودية، ولا يذكر لهم حقوقًا سياسية؛ فلا حق لهم في إدارة أو سلطة أو تقرير مصير، ويحفظ لهؤلاء اليهود في فلسطين الحقوق السياسية، بل ويحتاط بحفظ الحقوق السياسية لليهود خارج فلسطين!

وعندما طالبتْ فرنسا خلال مباحثات الحلفاء حول الانتداب البريطاني على فلسطين، وإدخال وعد بلفور في وثيقة الانتداب بإضافة عبارة: (الحقوق السياسية) للطوائف غير اليهودية رفضها الطرف البريطاني كلية!

لقد تصرفت الحركة الصهيونية منذ نشأتها على تجاهل وجود الشعب الفلسطيني، وأنه لا وزن له، وهي نظرة استعمارية وافقتها عليها بريطانيا وهي تمد لها يد الدعم؛ لذا قال "بلفور" ذات يوم: "لا نستطيع الأخذ بعين الاعتبار أماني المجتمع القائم -أي المجتمع الفلسطيني!-، فنحن نسعى عن عمدٍ إلى إعادة تركيب مجتمع آخر، وإلى التأسيس في آخر المطاف مِن أجل أكثرية مستقبلية أخرى!". 

ويُلاحَظ في "وعد بلفور" أن الحكومة البريطانية تعهدتْ ببذل قصارى جهدها لتسهيل تنفيذ الغاية مِن الوعد، وهي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

وبالفعل لم تقف بريطانيا عند إصدار الوعد، بل بذلتْ كل جهدها لتنفيذه حقـًّا:

- فأدخلت الوعد في وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين في مؤتمر (سان ريمو) في أبريل 1920م، وهو المؤتمر الذي بحث شروط الصلح مع تركيا المنهزمة في الحرب العالمية الأولى، وكيفية تنفيذ معاهدة "فرساي"، وتنسيق المواقف حول ما سيفرض على تركيا والمنطقة العربية.

وفي أغسطس1920م كانت معاهدة (سيفر) التي وقَّعتْ عليها تركيا.

وفي أبريل 1922م وافقت الدول الأوروبية على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.

وفي عصبة الأمم أدخلت بريطانيا "وعد بلفور" في وثيقة الانتداب في يوليو 1922م؛ لتحقيق المساندة الدولية لهذه الجريمة؛ فأصبحت وثيقة الانتداب تعطي -أو توجب- على بريطانيا إقامة وطن قومي لليهود بصورة علنية رسمية صادرة مِن عصبة الأمم!

- ضغطت إنجلترا على الدول الكبرى -وهي الدول الاستعمارية الأوروبية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى- والتي تعمل لمصالحها الاستعمارية في المقام الأول دون أي اعتبار للشعوب الضعيفة أو المهزومة التي تقع تحت قبضتها - للموافقة على إدخال "وعد بلفور" في وثيقة الانتداب، فعلتْ ذلك دون مواربةٍ أو حياء! أي فوضت الدول الأوروبية بريطانيا في السعي لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

وقد ذكر "وايزمان" في مذكراته أن اليهودي الأمريكي "بنيامين كوهين" كان يتولى مع سكرتير اللورد "كيرزون" وزير الخارجية البريطاني وقتها وضع وصياغة صك الانتداب والاتفاق على نصوصه، كي تكون متوافقة مع "وعد بلفور"؛ لذا أدرج في مقدمة الصك نص تصريح بلفور، بل جاء في المقدمة كلمة عن الصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين، والتي تبعث على إعادة إنشاء وطن قومي لهم فيها!

- أقامت على هذا الوعد كل سياستها قرابة ربع قرن مِن الانتداب البريطاني على فلسطين؛ ولهذا جاء في أول بيان لـ(هربرت صموئيل) اليهودي الصهيوني الذي عيَّنته بريطانيا أول رئيس لحكومتها في فلسطين: "إني مأمور مِن جلالة الملك جورج الخامس أن أبلغكم الرسالة الآتية: إن الدول المتحالفة التي نالت الفوز الباهر في هذه الحرب قد أودعت بلادي أمر الوصاية على فلسطين لكي تسهر على مصالحها، وتكفل لبلادكم العمران السلمي الذي كنتم تنشدونه -وهذا هو الهدف الظاهري للانتداب، وباطنه احتلال البلاد والتحكم في مقدراتها-، ولا يخفى عليكم أن الدول المتحالفة قررت اتخاذ التدابير لتضمن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بالتدريج".

لقد حددت اتفاقية "سايكس - بيكو" والمعاهدات والمؤتمرات التي عقدتها الدول الاستعمارية الكبرى -وفي مقدماتها بريطانيا- مصير الشعوب العربية مِن وقتها وإلى اليوم، بتحويل المنطقة إلى كياناتٍ منفصلة عن بعضها البعض، وحالتْ دون قيام دولة عربية موحدة، بفرض الانتداب مِن الدول الاستعمارية على تلك الكيانات بدلًا مِن الاستقلال، ومهَّدتْ لوطنٍ قومي لليهود في فلسطين.

وحتى وقت ظهور "وعد بلفور" لم يكن أكثر يهود الغرب يوافقون الحركة الصهيونية على إقامة دولة لليهود تجمعهم، بل كان الفكر السائد هو اندماج اليهود في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها في ظل الحريات السائدة في أوروبا وأمريكا، وتناقص العداء للسامية؛ خاصة وأن ملايين اليهود يعيشون مطمئنين في أوروبا الغربية وأمريكا.

وعندما تركزت جهود الحركة الصهيونية على بريطانيا بقيادة "وايزمان" ومجموعته؛ للحصول على وعدٍ بإقامة دولة لليهود، كان معظم اليهود البريطانيين ضد هذا الاتجاه، وكانوا يخشون حدوث التقاء بيْن أصحاب الدعوة الصهيونية والمناصرين للا(سامية) في أوروبا، على اعتبار إقامة دولة لليهود حل لقضية اضطهاد اليهود خاصة في أوروبا الشرقية.

يقول (كلود مونتيفيور) -وهو مِن أبرز أعضاء الهيئة المشتركة الممثلة لليهود البريطانيين في هذه الفترة-: "نعلم أن الصهيونيين سيصرون على التأكيد بأن اليهود حتى خارج فلسطين ينتمون إلى قوميةٍ خاصةٍ بهم، ونعلم إلى أية درجة يلتقي الصهيونيون واللاساميون".

وقد دعي "مونتيفيور" لحضور مؤتمر باريس للسلام الذي تلا الحرب العالمية الأولى كناطقٍ باسم اليهود الغربيين، فكانت وجهة النظر التي يمثـِّلها أن برنامج اليهود الاندماجيين ينطلق مِن إدراكهم لخطورة المسألة اليهودية في أوروبا الشرقية، ويرون أن الحل الممكن هو الاندماج الكامل لليهود في مختلف بلدانهم مع الاحتفاظ بخصوصيتهم الدينية، كما عليه حال اليهود في أوروبا الغربية وأمريكا، وكانوا متأكدين أن هذا الحل ممكن إذا قدَّمت الدول الليبرالية دعمها المعنوي والدبلوماسي للمقهورين في دول أوروبا الشرقية (راجع المسألة الفلسطينية، ص 48-50).

ولم يمانِع اليهود الغربيون في إنشاء مقرٍ روحي يهودي في فلسطين يقتصر على النشاطات الدينية، ومع بداية ظهور الحركة الصهيونية في "بال" في سويسرا، كان ينعقد مؤتمر مونتريال في كندا؛ لبيان موقف اليهود في أمريكا الشمالية منها، والذي قرر رفض كل مبادرة لإنشاء دولة يهودية واعتبارها تنطوي على مفهومٍ خاطئ لرسالة الشعب اليهودي" (راجع المسألة الفلسطينية، ص 50).

- جاء "وعد بلفور" كنقطة تحول هامة في تاريخ الحركة الصهيونية؛ إذ خفتتْ ثم اختفتْ بالتدريج الأصوات التي كانت تعارض الفكرة الصهيونية، وحقق دفعًا ماديًّا ومعنويًّا للحركة الصهيونية واليهود، وقد استشعروا قوة نفوذهم فتقدموا بعد الانتداب البريطاني على فلسطين ببرنامج خاص لتوطين اليهود فيها، يتضمن: الاعتراف لليهود بجنسيةٍ خاصة، وتمتعهم باستقلالٍ ذاتي، وتأسيس شركة ذات امتياز لشراء الأراضي لتوطن اليهود المهاجرين إليها فيها، وبدأت موجات الهجرة اليهودية تتابع على فلسطين.

ذكرتْ د."عواطف عبد الرحمن" حال اليهود في مصر بعد ظهور "وعد بلفور" فقالتْ: "وبعد صدور وعد بلفور 1917م، أصبحت الجمعية الصهيونية بالإسكندرية تتلقى التعليمات مِن المنظمة الصهيونية العالمية مباشرة، ولم يعد دورها مقتصرًا على الأنشطة الدعائية، بل شاركتْ في تسهيل عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد تكونتْ إلى جانب هذه الجمعية لجنة عُرفتْ باسم: (لجنة مساندة فلسطين)، ساهم في تشكيلها كبار الرأسماليين اليهود في الإسكندرية، وكان اختصاصها يدور حول كل ما له علاقة بإنشاء (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين. وقد اتسع النشاط الصهيوني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بدرجةٍ ملحوظة، فتشكلت منظمة الصهيونية الطلائعية، ورابطة نوادي المكابي.

وفي 1918م قام ليون كاسترو بتأسيس أول فرع للمنظمة الصهيونية في مصر، وقد كان هذا الفرع صورة مصغرة للمنظمة الصهيونية مِن حيث النشاط الدعائي والاقتصادي والفكري، وكانت صحيفة (المجلة الصهيونية) التي أصدرها ليون كاسترو في نفس العام لسان حال المنظمة الصهيونية وأداة فعالة لنشر الصهيونية بيْن جماهير اليهود المصريين، كما كان فرع الكيرين كايميت (الصندوق القومي اليهودي) وسيلة أخرى لجمع التبرعات مِن اليهود المصريين لشراء أراضي فلسطين، وكان هذا الفرع المصري على اتصالٍ دائم بالمركز الرئيسي في لندن.

وقد أنشا الفرع المصري عدة فروع إقليمية في الإسكندرية وطنطا والمنصورة، وكانت الجمعية المصرية لأصدقاء الثقافة العبرية وسيلة فعالة لنشر الفكر والثقافة العبرية بيْن أبناء الطائفة؛ إذ كانت تقوم بإيفاد بعثات دورية مِن يهود مصر إلى فلسطين حيث يتلقون دورات دراسية في الفكر الصهيوني ثم يعودون إلى مصر وقد أصبحوا كوادر قادرة على نشر هذا الفكر وترويجه.

ولم يقتصر نشاط فرع المنظمة الصهيونية على الجوانب السابقة السالفة الذكر، بل استطاع ليون كاسترو بقدراته واتصالاته تحويل المحافل اليهودية إلى منابر للدعوة للصهيونية؛ إذ أصبحت هذه المحافل مقرًّا للاجتماعات التي تدعو لتأييد الوطن اليهودي في فلسطين علنًا! وقد انتعشت الدعاية الصهيونية في مصر إبان الحكم الفاشي في إيطاليا وألمانيا في الثلاثينيات.

وتحت ستار مقاومة الفاشية تشكّلت الهيئات اليهودية ذات الولاء الصهيوني، وقامتْ بدورٍ خطير في الترويج للفكر الصهيوني مِن خلال الادعاء بمقاومة الهتلرية، ونجحتْ في اجتذاب واهتمام بعض كبار الكتاب والأدباء المصريين، مثل: طه حسين، ومحمد حسين هيكل، حيث منحا الرابطة تأييدهما وتشجيعهما سواء عن غفلةٍ أو إدراك بحقيقة الدور المزدوج الذي كانت تقوم به رابطة مقاومة الهتلرية التي كوَّنها اليهود في ذلك الحين" (اليهود المصريون والحركة الصهيونية، ص 51 -53).

- بعد أن نكثتْ بريطانيا بوعدها للشريف حسين، تعلقت الآمال العربية في صيف 1919م بما نادى به الرئيس الأمريكي (ويلسون) مِن حق تقرير المصير للشعوب المحررة أثناء الحرب العالمية الأولى "ومنها البلاد العربية"؛ ولهذا تم إرسال لجنة تحقيق دولية لاستطلاع رأي الأهالي في فلسطين حول مصيرهم، حيث باشرت اللجنة التي عُرفت باسم: لجنة (كنج - كرين) مهامها بعد الوصول إلى حيفا في يونيو 1919م، ولكن اللجنة -رغم ما انطوتْ عليه مِن إيجابيات- لم تسفر عن نتيجة، وزاد الأمر سوءًا أن الرئيس الأمريكي (ويلسون) أقعده عن الحكم مرض مفاجئ، وخسر مرشحه في انتخابات الرئاسة الأمريكية، فتغيرت السياسة الخارجية الأمريكية، بل لم تنضم أمريكا إلى عصبة الأمم رغم أن أمريكا هي صاحبة اقتراح إنشاء عصبة الأمم، وعليه طوى النسيان تقرير لجنة (كنج - كرين)، واستمرتْ إنجلترا في تنفيذ مخططها.

- أعلن عرب (سوريا الكبرى) الاستقلال في مارس 1920م، ونصَّبوا الأمير "فيصل بن الشريف حسين" ملكًا عليهم، وهو الذي قاد الحملة العسكرية ضد الأتراك لصالح الحلفاء، ودخل معهم دمشق! ولكن القوات الفرنسية دخلتْ دمشق بالقوة بعد معركة (ميسلون) في 24 يوليو 1920م، ووضعت سوريا تحت الانتداب الفرنسي، وشهدت العراق حركة قومية تدعو للاستقلال، فقامت بريطانيا وكان لها 150 ألف جندي في العراق بقمع هذه الحركة العربية في أكتوبر 1920م.

وفي أبريل 1920م شهدتْ فلسطين تظاهرات مناوئة للتواجد اليهودي، فشكَّلت بريطانيا لجنة عسكرية للتحقيق حول أسباب الثورة، وجاء في تقرير هذه اللجنة: أن سبب هذه الانتفاضة الخيبة التي يشعر بها العرب؛ بسبب عدم الوفاء بوعود الاستقلال التي وُعدوا بها خلال الحرب، واعتقادهم أن إعلان "بلفور" يحرمهم مِن حق تقرير المصير، وخشيتهم مِن ارتفاع الهجرة الجماعية اليهودية؛ مما يؤدي إلى سيطرتهم الاقتصادية والسياسية، ولكن الحكومة البريطانية أخفتْ نتائج التحقيق عن الرأي العام البريطاني، ولم يتم الإشارة إليها إلا بعد سنواتٍ طويلة.

- وفي يوليو 1922م صدرتْ مِن (عصبة الأمم) وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد أدخل فيها "وعد بلفور"؛ لجعل تمكين اليهود مِن أرض فلسطين تتفق مع الشرعية الدولية بمباركة الدول الأوروبية الكبرى، أي فرض الاستعمار الغربي كل ما يريد على بلاد العرب المغطاة بأجساد الآلاف مِن العرب الذين سقطوا في مواجهة الأتراك ثم الانجليز والفرنسيين!

- جاء في المادة الثانية مِن صك الانتداب: "على الدولة المنتدبة أن تخلق في البلاد مجموعة مِن الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية مِن شأنها تأمين قيام الوطن القومي للشعب اليهودي... ".

- وجاء في المادة الرابعة: "يتم الاعتراف بهيئةٍ يهودية ملائمة، ويُعطى لها الحق في إسداء المشورة لإدارة فلسطين والتعاون معها في كل الشئون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، التي قد تؤثر في إقامة الوطن القومي اليهودي، وعلى مصالح اليهود في فلسطين"، "سيتم الاعتراف بـ(المنظمة اليهودية) على أنها هي الهيئة المشار إليها بالاتفاق مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية، واتخاذ كل الإجراءات الضرورية لتأمين التعاون بيْن جميع اليهود المستعدين للمساهمة في إنشاء الوطن القومي اليهودي".

- وفي المادة السادسة: "ستسهل إدارة فلسطين -أي الإدارة البريطانية- الهجرة اليهودية إليها ضمن الشروط الملائمة، وستشجع بالتنسيق مع الهيئة الصهيونية المشار إليها في الفقرة الرابعة استيطان اليهود بشكلٍ مكثف في أراضي البلاد، بما فيها الأراضي الأميرية، والأراضي غير المستصلحة للزراعة، وغير المستعملة للخدمات العامة".

- وجاء في المادة السابعة: "تكون إدارة فلسطين مسئولة عن سنِّ القوانين للجنسية، على أن يتضمن هذا القانون نصوصًا تسهِّل منح الجنسية الفلسطينية لليهود الذين سيقيمون في فلسطين بشكلٍ دائم".

وجاء في المادة الحادية عشر: "بإمكان الإدارة الاتفاق مع الهيئة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة مِن أجل تنفيذ أو استثمار الأشغال والخدمات ذات المنفعة العامة، وتنمية كل الموارد الطبيعية في البلاد؛ ذلك ضمن شروطٍ عادلةٍ ومنصفةٍ، وفي الحالات التي لا تقوم فيها إدارة فلسطين بهذه النشاطات مباشرة".

فهذه البنود الواضحة الهدف والاتجاه "ليستْ مِن وثيقة سِريَّة!"، بل هي عَلَنيَّة صُبغتْ بالشرعية الدولية بمباركة الدول الأوروبية التي تلاقتْ مصالحها مع مصالح الحركة الصهيونية على حساب الشعب العربي الفلسطيني!