الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 16 أغسطس 2017 - 24 ذو القعدة 1438هـ

الملاحدة... وقصة الخلق (10)

كتبه/ إيهاب شاهين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقول أصحاب التطور الموجَّه إن المخالفين لهم، إنما خالفوا فرضية التطور الموجه بناءً على اعتباراتٍ غير علمية، وأن ذلك راجع إلى التمسك بالتفسيرات التراثية؛ هذا التوصيف غير صحيح، ولا يقوم على أسس علمية مستقيمة؛ فإن مخالفة فرضية التطور ليستْ خاصة بأهل الإسلام، ولا أهل الأديان الأخرى، فإن هناك عددًا مِن المخالفين لفرضية التطور التدريجي -سواء كان موجهًا أو مبنيًّا على الصدفة- ليسوا مِن أتباع الأديان، وكانوا يعتمدون على أسسٍ علميةٍ محضة، ولا علاقة لهم بتفسيرات النصوص الدينية.

ثم إن ما ذكروه مجرد دعوى لا دليل عليها؛ فضلاً عما في هذا الموقف مِن نسبة عموم الأمة الإسلامية إلى الجهل، وعدم معرفة مراد الله مِن كلامه مدة القرون الماضية! فإنهم لم يتكئوا على نظريةٍ علميةٍ مستقرة، ولم تصل إلى درجة اليقين والقطع.

وهذه بعض النصوص القرآنية التي استندوا عليها في هذا الفهم النكد نبيِّنها، ونوضِّح خطأهم في فهمها:

الدليل الأول: التفريق بيْن البشر والإنسان في القرآن، ويقوم هذا الدليل على أن القرآن يفرِّق بيْن زمن خلق الإنسان، وزمن خلق البشر؛ لكونه يعبِّر عن خلق الإنسان بفعل الماضي، كما في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون) (الحجر:26)، ويعبِّر عن خلق البشر باسم الفاعل الذي يدل على الحاضر والمستقبل، كما في قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر:28).

وفي بيان الاستدلال بهذه الآيات يقول أحدهم: "تُبيِّن هذه الآيات: أن الإنسان كان قد خُلق فعلاً قبْل أن يخبر الله -عز وجل- ملائكته بأنه سيخلق بشرًا مِن نفس مادة الإنسان، كلاهما مِن صلصال مِن حمأ مسنون، بل هو منه، متطور عنه! فالإنسان وُجد قبْل البشر، ولم يتحول الإنسان إلى بشرٍ؛ إلا بعد أن نفخ الله فيه مِن روحه، ويؤيد هذا الفهم -وجهة نظرهم- أن الله -عز وجل- لم يُطلق على أيٍ مِن رسله وأنبيائه لفظ: "إنسان"، بل تحدث عنهم دائمًا بلفظ البشر فقط".

لكن هذا الاستدلال غير صحيح، وهو في غاية البُعد عن الصواب؛ لأنه قائم على تفريق مدَّعى لا حقيقة له؛ فنحن لا ننكر أن هناك فرقًا بيْن معنى لفظ: "الإنسان" ولفظ: "البشر" مِن حيث الاشتقاق اللغوي، ولا ننكر أن القرآن غاير بيْن اللفظين في الاستعمال، لكن هذه المغايرة لا تدل بحال على تنوع الحقيقة الوجودية التي يعبِّران عنها.

وهذا الأسلوب شائع الاستعمال في القرآن ولغة العرب؛ ففي التعبير عن حقيقة كلام الله يعبّر تارة بلفظ الكتاب، وتارة بلفظ القرآن، وتارة بلفظ الذكر، ولا شك في أن هذه الألفاظ مختلفة في مدلولها اللغوي، ولا شك في أن القرآن لا يعبّر بأحدهما إلا وهو يقصد المعنى الذي يدل عليه في محله الذي ورد فيه، لكن ذلك كله لا يدل بحال على تنوع الحقيقة الوجودية لكلام الله.

وكذلك الحال في التعبير عن حقيقة آدم -عليه السلام- ونسله، فإن القرآن يعبر عنها بألفاظ مختلفة: "البشر، والإنسان، والناس، وبني آدم"، وكل لفظ مِن هذه الألفاظ يؤدي معنى مقصودًا لا يؤديه غيره، لكن ذلك لا يعني الاختلاف في الحقيقة الوجودية للإنسان.

ومما يدل على أن التغاير بيْن لفظي الإنسان والبشر في القرآن لا يعني الاختلاف في الحقيقة الوجودية: أنه عبَّر بهما عن أصل خلقة بني آدم، كما في قوله -تعالى-: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ) (السجدة:7)، وقوله -تعالى-: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ) (ص:71).

ومما يدل على ذلك أيضًا: أن القرآن استعمل لفظ الإنسان في التعبير عن المرحلة التي يسمونها "مرحلة البشرية" مراتٍ كثيرة، بلغت العشرات.

ومِن ذلك: قوله -تعالى-: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) (القيامة:36)، وقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم) (الانفطار:6)، بل إن القرآن لم يستعمل في التعبير عن تكليف بني آدم بالرسالات إلا لفظ الإنسان؛ فلو كان القرآن يغاير بيْن لفظي الإنسان والبشر في الدلالة على الحقائق الوجودية؛ فكيف يصح أن يعبِّر بالإنسان عن المرحلة البشرية كما يعتقدون؟!

وأما الاعتماد على التفريق بيْن استعمال فعل الماضي واسم الفاعل، فهو خطأ ظاهر؛ لأن ذلك التفريق ليس راجعًا إلى اختلاف زمن الخلق، ولا إلى اختلاف حقيقة الإنسان عن حقيقة البشر، وإنما راجع إلى طبيعة السياق الذي جاءتْ فيه تلك الصيغ؛ فالتعبير بالماضي جاء في سياق إخبار الله لنا عن خلق آدم -عليه السلام-، فمِن الطبيعي أن يكون بلفظ الماضي؛ لأن خلق آدم -عليه السلام- بالنسبة لنا أمر ماضٍ، واستعمال اسم الفاعل جاء في سياق إخبار الله الملائكة عن إرادته خلق الإنسان، فمِن الطبيعي أن يكون بصيغة اسم الفاعل.

 ومما يدل على ذلك أيضًا: أن الله -تعالى- أخبر الناس في عصر النبوة -وهم في طور البشرية كما عند أتباع فرضية التطور- عن أصل خلقتهم بلفظ الماضي أيضًا، كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (الحج:5).

فما سبق يدل على أن الاختلاف في صيغ التعبير عن خلق آدم -عليه السلام- وذريته ليس دليلاً على اختلاف الحقيقة الوجودية التي نتحدث عنها.

والحمد لله رب العالمين.