الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 12 مارس 2017 - 13 جمادى الثانية 1438هـ

وثيقة المدينة مع اليهود (11) معالم قضائية وحقوقية.... حرية الإقامة والانتقال والسفر

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد نصت "وثيقة المدينة" على هذا الحق الأصلي مِن حقوق الإنسان، ففيها: "وأن مَن خرج فهو آمن، ومَن قَعَد فهو آمن؛ إلا مَن ظَلَم وأَثِم"، وهذا الحق مِن حقوق الإنسان؛ لأن الأرض مِلكٌ لله -سبحانه-، سَخَّرها لعباده كما قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة:29)، وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) (الجاثية:13).

فمِن حق البشر أن يتحركوا في الأرض، وأن يضربوا في مناكبها ويُقيموا حيث شاءوا؛ لا يجني على امرئٍ إلا نفسُه، وأن ينتفعوا بما أباح الله لهم فيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168)؛ فطالما التزم الإنسان بالحلال واجتنب الحرام، ولم يتبع خطوات الشيطان الآمر بالشرك والكفر والفسوق والعصيان، فالأرض له يعمُرها بعبودية الله -تعالى-.

ومَن اختار الكفر لنفسه، لكنه لم يفرِضه على غيره ولم يَحُل بينه وبيْن الإسلام؛ فلنفسه اختار، وطالما سالَم أهل الإيمان والإسلام الداعين إلى عبادة الله -سبحانه وتعالى- وحده، الساعين لإعلاء كلمة الله في الأرض، والتي لا يُكره الناس بمقتضاها على الإيمان، كما لا يحول بينهم وبيْن الإسلام طاغوت - قال الله -تعالى-: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس:99)، وقال: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:256)؛ فهذا الشخص ليس حَربيًّا، بل تُحفَظ له حقوقه في الإقامة والسفر والانتقال الآمن، إلى جانب حرية الاعتقاد في الدنيا، طالما قد بَيّنّا له عاقبة كُفرِه في الآخرة، ورضي بالمُسالَمة، فإنه لا يُجبَر على الإسلام، قال الله -تعالى-: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف:29)، لكن ليس مِن حق مخلوق أن يحول بيْن الناس وبيْن نور الله -سبحانه-؛ فيصير طاغوتًا يُعبد مِن دون الله، بصّدِّه عن سبيل الله.

ولقد دَلّت سيرة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أن قوله: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) (متفق عليه)، ليس مقصوده إكراههم على الإسلام؛ إلا المرتدين الخائنين الخيانة العظمى لدين الله وللمسلمين، بل المقصود أنه يقاتِلهم حتى يُسلِموا، أو يُسالِموا بإعطاء الجزية، أو بمُسالَمة المسلمين بأنواع العهود التي يُكَفُّ بها عنهم، والتي هي في الحقيقة مِن أعظم أسباب اختلاط المسلمين بالكفار مِن سائر المِلَل فيكون ذلك مِن أعظم أسباب دخولهم في الإسلام، كما وقع في الحديبية، وكما وقع عبْر تاريخ الإسلام الطويل، الذي ظهر فيه -بجلاءٍ ووضوحٍ- أن الناس إذا زالت الحُجُب عنهم التي تحول بينهم وبيْن هذا الدين دَخَلوا فيه بلا تردد، وهو أسرع الأديان انتشارًا في الأرض، لمُوافَقَتِة الفطرة السليمة والعقول المستنيرة؛ ولذا كان خيار المُسالَمة مُرَجَّحًا عند أهل الإسلام، كما قال الله -عز وجل-: (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال:61).

وخيار الجِزية مبذولٌ لكل أهل المِلَل، على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ -أَوْ خِلَالٍ- فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ) (رواه مسلم)، ثم ذكر دعوتَهم إلى الإسلام والهجرة، أو دعوتَهم إلى الإسلام والبقاء في بلادهم مع جريان أحكام الإسلام عليهم، أو الجِزية.

وكذلك أنواع العهود الأخرى التي تكفُل للإنسان حق التفكير والنظر الآمن، وتحفظ الاستقرار على المجتمع، فيُقبِل الناس على الدين؛ والجهاد إنما شُرِع لإعلاء كلمة الله، لا لإكراه الناس على الإيمان والدخول فيه.

وهذه وثيقة المدينة تتضمن المحافظة على استقرار المدينة "يثرب"، وأَمْنِها وأَمْنِ أهلِها مُسلمِهم وكافِرِهم، وحق الإقامة والانتقال والسفر والدخول والخروج الآمن لمواطنيها؛ كل ذلك مِن أعظم أسباب دخول الناس في الدين طواعية إلا أن طواغيت اليهود هم الَّذين كانوا يحولون بيْن قومِهم وبيْن الإيمان برسول الله -صلّى الله عليه وسلم- كما كان طواغيت المشركين؛ ولذا انتفع بهذا الاستقرار أقوامٌ آخرون هداهم الله إلى الإسلام، ونما المجتمع المسلم والدولة المُسلِمة تدريجيًّا بهذا الاستقرار الداخلي، واستطاعت مواجهة التحديات الخارجية، والمخاطر والمؤامرات التي تستهدف وجودَها فضلاً عن استقرارها.

ويُلاحَظ في بنود هذه الوثيقة بندًا سَبَقت به الدولة المُسلِمةُ الأولى الدولَ المعاصِرة، وهو أن حق الانتقال والسفر لا ينافي تعريف إدارة الدولة بأمر الانتقال، ففي الوثيقة: "وإن بِطانة يهود كأنفُسِهم، وإنه لا يخرج منهم أَحَدٌ إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم-"؛ ووثائق السفر المُعاصِرة هي نوع مِن تعريف الدولة بتحرُّكات الأفراد داخِلَها وخارِجَها، وذلك لمنع أي محاولاتٍ للاختراق أو تحرُّكات عسكرية أو تحريضية ضد الدولة، فكما أنه لا يَحِلُّ لأَحَدٍ من المشركين مِن أهل المدينة ولا اليهود أن يُجيروا قُرَيشًا ولا مَن نَصَرها، كما ورد في نص الوثيقة: "وإنه لا يُجيرُ مُشرِكٌ مالًا لقُرَيشٍ ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن"، وأيضًا فيها: "وإنه لا تُجَارُ قُرَيشٌ ولا مَن نَصَرَها"؛ فلا تعني حرية السفر والانتقال والحركة أن تتم بمعزلٍ عن معرفة إدارة الدولة، المُمَثَّلة آنذاك في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وكل هذا للمحافظة على الاستقرار الداخلي، وتماسك المجتمع، ومنع الدسائس التي تكَرَّرَ التحذيرُ منها في الوثيقة، والنصّ على وجوب البِرِّ والقِسط دون الإثم؛ مما يعطي المتأمِّلَ فِكْرَةً عن حجم المؤامرات التي كان يَتَعرَّض لها المجتمع المسلم والدولة المُسْلِمة، فكانت هذه البنود مع اليهود، للحفاظ على أمن وسلام المدينة لكل رعاياها بمن فيهم مِن المشركين واليهود.