الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 20 فبراير 2017 - 23 جمادى الأولى 1438هـ

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (14) استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هذا المقال نستكمل أحداث يوم الدار بعد أن استعرضنا في المقال السابق موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- خلال الأحداث.

يوم الدار واستشهاد عثمان -رضي الله عنه-:

استدعى عثمان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء أحبُّ إليَّ مِن الحج، قال له: عزمتُ عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين(1)، وكتب عثمان كتابًا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الذين خرجوا عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه، وفي آخر أيام الحصار وهو اليوم الذي قتل فيه، نام -رضي الله عنه- فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم، ثم قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا عثمان أفطر عندنا؛ فأصبح صائمًا، وقُتل مِن يومه(2).

وهاجم المتمردون الدار؛ فتصدى لهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، ومَن كان مِن أبناء الصحابة أقام معهم؛ فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل مِن نصرتي؛ فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه َمن كف يده منهم فهو حر(3).

وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل مَن رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه(4)، ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقًا مِن استشهاده بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك؛ ولذلك أراد ألا تُراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بيْن المسلمين، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفرٍ حجوا معه؛ فأدرك عثمان قبْل أن يُقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟! فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة؛ فثار أهل الدار وعثمان -رضي الله عنه- يصلي حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة؛ فأبلوا أحسن البلاء، وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه:1-3)، وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبْل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137)(5).

وأصيب يومئذٍ أربعة مِن شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم, وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج مِن الدار، وخلى بينه وبيْن المحاصرين، فلم يبقَ في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حامٍ مِن الناس، وفتح -رضي الله عنه- باب الدار(6)، وبعد أن خرج مِن في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر -رضي الله عنه- المصحف بيْن يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائمًا، فإذا برجل مِن المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان -رضي الله عنه- فقال له: بيني وبينك كتاب الله, فخرج الرجل وتركه(7)، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل مِن بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان -رضي الله عنه- بيده فقطعها، فقال عثمان، أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل(8)، وذلك أنه كان مِن كتبة الوحي، وهو أول مَن كتب المصحف مِن إملاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل -رضي الله عنه- والمصحف بيْن يديه، وعلى إثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بيْن يديه يقرأ منه، وسقط على قوله -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137).

ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن(9)، وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت، فغمز أوراكها(10).

ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يُسمَّى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحًا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله؛ فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان.

ولما تم قتل عثمان -رضي الله عنه- نادى منادٍ القوم السبئيين قائلاً: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله؛ ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادًا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويُدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك مِن عجيزة ما أتمك(11)؛ فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعد ما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحدٌ إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان مِن طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه(12).

حقق المجرمون السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير مِن أتباعهم مِن الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادًا.

وقد علـَّق كبار الصحابة على مقتل عثمان؛ فقال الزبير بن العوم -رضي الله عنه-، لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله -تعالى-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) (سبأ:54).

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16-17)(13).

وقال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف:103-106)، ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم(14).

واستجاب الله دعوة سعد وكان مستجاب الدعوة، فقد أٌخذ كل مَن شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد(15).

قٌتل عثمان -رضي الله عنه- في شهر ذي الحجة في السنة الخامسة بعد الثلاثين مِن الهجرة، توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، وقام نفر مِن الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة مِن أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصلوا عليه صلاة الجنازة، وقد دفنوه ليلاً، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بيْن المغرب والعشاء -رضوان الله عليه-(16).

لقد كانت فتنة قتل عثمان سببًا في حدوث كثير مِن الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وكان مقتل عثمان مِن أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بيْن الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم(17)؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح مَن كان يحب إقامته، ثم بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-.

ثم تمت مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أحق الناس بالخلافة حينئذٍ، وأفضل مَن بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة مِن كل ما يريدون مِن الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام كثيرون.

إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق مِن أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (الكهف:59)، وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان -رضي الله عنه- المعتدين عليه يجد أن الله -تعالى- لم يفلتهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم؛ فلم ينجُ منهم أحد!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- للصلابي، ص 386.

(2) حصة بنت عبد الكريم الزيد، موقف الصحابة مِن أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين، منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات، ص30.

(3) البداية والنهارية لابن كثير (7/ 190).

(4) العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص137.

(5) تاريخ دمشق لابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 80 (64/ 245).

(6) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/ 188).

(7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 405).

(8) المصدر السابق (5/ 399).

(9) الطبقات لابن سعد (3/ 76).

(10) الطبري، المصدر نفسه (5/ 407).

(11) عَجِيزَةُ الْمَرْأَةِ: مُؤَخِّرَتُهَا.

(12) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي (المتوفى: 200هـ) الفتنة ووقعة الجمل، دار النفائس، ط 1993، ص73.

(13) التميمي، المصدر السابق، ص74.

(14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 194).

(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/410)، وأخرج أحمد بإسنادٍ صحيح، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَاةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ وَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَوِيًّا". فضائل الصحابة (1/ 501) بإسنادٍ صحيح.

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما علمتُ أحدًا أشرك في دم عثمان، ولا أعان عليه، إلا قـُـتِـل!"، وفي رواية أخرى: "لم يدع الله الفَسَـقة "قتلة عثمان" حتى قتلهم بكل أرض!"، انظر: تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/ 1252).

(16) الطبقات لابن سعد (3/ 78).

(17) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/ 303).