الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 04 يناير 2017 - 6 ربيع الثاني 1438هـ

دروس مِن قصة نبي الله موسى -عليه السلام- (6) (موعظة الأسبوع)

بنو إسرائيل وفتنة العافية

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

مقدمة:

- مكَّن الله لبني إسرائيل بإهلاك الفراعنة الذين ساموهم سوء العذاب، وأورثهم الأرض مِن بعدهم: قال الله -تعالى-: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف:137).

- شكر نعمة التمكين هو إقامة الدين: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7).

- ولذا كان موسى -عليه السلام- يحذرهم مِن الفتنة بعد التمكين: (قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129).

- ولكن... صبر بنو إسرائيل على المحنة والقهر أيام الفرعون، ولم يصبروا على امتحان العافية والحرية بعد زواله: قال الله -تعالى-: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35)، وقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (الفرقان:20).

مِن مظاهر فتنة العافية في بني إسرائيل:

تنبيه: يمكن تقسيم الموعظة على أسبوعين، أو يكون القسم الآخر بعد الصلاة، وهو أنسب لاتصال الفكرة.

1- البطر على نعمة الله:

قال -تعالى-: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:49-50)، وقال -تعالى-: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (البقرة:57)، وقال: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة:60).

- ملخص الآيات: يذكر -تعالى- منته وإحسانه على بني إسرائيل، بما نجاهم مِن أعدائهم، وخلصهم مِن الضيق والحرج، وأنه -تعالى- أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم في الأرض التي ليس فيها زرع ولا ضرع، أنزل منًّا مِن السماء: وهو طعام طيب، والسلوى: وهو طير شهي، فيأخذون كفايتهم فيها بغير كلفة ولا تعب، وإذا كان الحر والشمس ظلل الله عليهم الغمام، وهو السحاب الذي سترهم، وأنبع بهم الماء، حيث ضرب موسى -عليه السلام- الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عين تتفجر ماءً زلالاً، فيستقون ويسقون دوابهم، ويدخرون كفايتهم، وهذه نعم مِن الله وعطايا جسيمة؛ فما رعوها حق رعايتها، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها، ثم ضجر كثير منهم منها وتبرموا بها، وسألوا الذي هو أدنى! كما قال الله -تعالى- عنهم: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) (البقرة:61).

دروس وعبر:

- البطر حال أهل الغفلة، والشكر حال أهل اليقظة: قال الله -تعالى- عن قوم سبأ: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ:19)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) (رواه مسلم).

- صور مشرفة مِن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقضون ليلة فتح مكة في عبادة وصلاة - زهد عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وقد فُتحت له الأمصار، وكان يقول: أخشى أن أكون مِن الذين قال الله عنهم فيهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف:20).

2- حنينهم إلى الوثنية:

قال الله -تعالى-: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأعراف:138-140).

- ملخص الآيات: يخبر -تعالى- عن بني إسرائيل، بعد خروجهم مِن البحر، وقد عاينوا مِن آيات الله وقدرته، ما دلهم على صدق ما جاء به موسى -عليه السلام- مِن أنهم مروا على قوم يعبدون أصنامًا، فكأنهم سألوهم: لمَ تعبدونها، فزعموا لهم أنها تنفعهم ويسترزقون بها عند الضرورات، فكأن بعض الجهال منهم صدقوا في ذلك، فسألوا نبيهم الكليم أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة، فقال لهم مبينًا أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، ثم ذكرهم نعمة الله عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع والرسول الذي بيْن أظهرهم.

دروس وعبر:

- الحذر مِن استحسان ما عليه الكفار وأصحاب البدع والضلال ولو بقصد الخير: "العلمانية - التشيع - الصوفية - ... ": فعن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (سُبْحَانَ اللَّهِ، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

- التنبيه على الفرق بيْن الفريقين: فبنو إسرائيل كانوا مسلمين منذ زمنٍ طويل، وأصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين قالوا ذلك، كانوا حدثاء عهد بالإسلام "نحو شهر"، وبنو إسرائيل قالوا كفرًا صريحًا، ومسلمو الفتح وقعوا في التبرك الممنوع وهو ذريعة إلى الشرك على أحد القولين؛ فيكون شركًا أصغر، وعلى القول الآخر يكون شركًا أكبر.

3- عبادتهم العجل:

قال الله -تعالى-: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى . قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى . قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ . فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي . قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ . فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ . أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي . قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى . قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا . أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي . قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي . قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ . قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي . قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا . إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (طه:83-98).

- ملخص الآيات: يذكر -تعالى- ما كان مِن أمر بني إسرائيل، حين ذهب موسى -عليه السلام- إلى ميقات ربه ويسأله موسى -عليه السلام- عن أشياءَ كثيرة؛ فعمد رجلٌ منهم يُقال له السامري، فأخذَ ما كانوا أخذوه مِن حُلي قبط مصر، فصاغ منه عِجلاً وألقى فيه قبضة مِن التراب، كان قد أخذها مِن أثر فرس جبريل -عليه السلام- حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي. ويُقال: إنه استعمل عجلاً جسدًا. وقيل: بل كانت الريح إذا دخلت مِن دبره، خرجت مِن فمه، فيخور كما تخور البقرة؛ فيرقصون حوله ويفرحون!

ولما رجع موسى -عليه السلام- إليهم، ورأى ما هم عليه مِن عبادة العجل، ومعه الألواح المتضمنة التوراة، ألقاها حين عاين ما عاين، ثم أقبل عليهم؛ فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح، فاعتذروا إليه بما ليس بصحيح مِن أنهم تحرجوا مِن تملك حلي آل فرعون، وهم أهل حرب، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم.

ثم أقبل على أخيه هارون -عليه السلام- قائلاً: هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا، فقال هارون: إني خشيت مِن تركهم وأنتَ قد استخلفتني فيه، فيزدادوا تفرقًا وضلالاً، وكان -عليه السلام- نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي حتى كاد بعضهم أن يقتله!

ثم أقبل موسى -عليه السلام- على السامري معنفًا، داعيًا عليه بأن لا يمس أحد، معاقبة له على مس ما لم يكن له مسه، ثم عمد إلى هذا العجل فحرقه ثم ذراه في البحر، ثم أخبرهم موسى -عليه السلام- بتوبة الله على مَن يتوب بشرط القتل، كما قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54)، فقاموا إلى الذين عبدوا العجل فقتلوهم عن آخرهم (قصص الأنبياء لابن كثير، بتصرف).

دروس وعبر:

- أثر مخالطة الكفار والإقامة معهم "تأثر بني إسرائيل بالفراعنة في معبوداتهم على مرِّ الزمان": قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ؟ قَالَ: (لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).  

- إعمال قاعدة اختيار أخف الضررين بالحفاظ على الجماعة، ومحاولة إصلاح الفساد الناشئ: (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).

4- نكولهم عن دخول الأرض المقدسة:

قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:20-26).

- ملخص الآيات: يخبر الله -تعالى- أن موسى -عليه السلام-، لما انفصل عن بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس، وجد فيها قومًا جبارين، فأمر بني إسرائيل بالجهاد، والدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم مِن بيت المقدس، فإن الله كتبه لهم، ووعده إياه على لسان إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فأبوا ونكلوا عن الجهاد، وخافوا مِن الجبارين، وقد عاينوا هلاك الفراعنة، وهو أكثر تجبرًا مِن هؤلاء وأشد بأسًا، وأصروا على النكول، فسلط الله عليهم الخوف وألقاهم في التيه، يسيرون ويرحلون ويذهبون ويجيئون، لا يعرفون قرارًا، مدة مِن السنين الطويلة، وكان بذلك الفراق لهم مِن موسى -عليه السلام-.

دروس وعبر:

- لا يصلح للجهاد مَن أمتلئ قلبه بالدنيا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا) (متفق عليه)

- صورة مشرِّفة مِن أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: "أقوال الصحابة يوم مشاورة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم قبْل معركة بدر".

خاتمة:

- موسى -عليه السلام- يحج قبْل وفاته: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَقِ، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ)، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: (أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟) قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي) (رواه مسلم).

وهكذا كانت هذه الأحوال مِن بني إسرائيل مقدمات على طريق كفرهم، وتحريفهم لما أٌنزل عليهم، وهو ما يظهر في كفرهم بالمسيح -عليه السلام-، كما يأتي قريبًا -إن شاء الله-.