الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 09 سبتمبر 2016 - 8 ذو الحجة 1437هـ

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد جعل الله -عز وجل- ملة إبراهيم -عليه السلام- هي الملة التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباعها، قال الله -تعالى-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123)، وجعل الله -عز وجل- لإبراهيم -عليه السلام- الثناء والذكر الحسن في الأمم كلها، فالكل ينتسب إليه كما دعا بذلك -عليه السلام-: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (الشعراء:84)، وإن كان أتباعه حقًّا إنما هم أتباع ملته الحنيفية التي بُعث بها، وبعث بها كل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.

حين يذهب الحُجاج إلى بيت الله الحرام معظمين لهذا البيت ومعظمين لبانيه -وكل ذلك عبودية لله سبحانه-، ملبين نداء الرحمن -سبحانه وتعالى- على لسان خليله -عليه السلام- الذي أذَّن في الناس بالحج؛ فلباه مَن في أصلاب الرجال، ومَن في أرحام النساء إلى يوم القيامة، حتى أذِن الله -عز وجل- لهذه البقعة أن تعمر بذكره، حين تُعمَّر هذه البقعة بحُجاج بيت الله الحرام - نتذكر دعوة إبراهيم -عليه السلام-، وسيرته التي ذُكرت في القرآن العظيم مرات عديدة؛ حتى نعي منها دروسًا وعبرًا، وحتى نعرف حقيقة التوحيد والدعوة إلى -سبحانه وتعالى-، والبراءة من الشر وأهله، والتضحية في سبيل الله؛ فنعرف معانٍ عظيمة مِن آيات الله -سبحانه وتعالى-، والتي منها قصة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ومواقفه المختلفة حتى نعرف لماذا اتخذه الله -عز وجل- خليلاً (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) (النساء:125)، والخلة: شدة المحبة، فهو حبيب إلى الله -عز وجل-، أي شديد الحب لله -سبحانه وتعالى-.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلته عند الله مقترنة بذكر منزلة إبراهيم -عليه السلام-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ، فَإِنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ) (رواه مسلم).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل قال له يا خير البرية: (ذَاكَ إِبْرَاهِيم) (رواه مسلم)، وإنما قال -عليه الصلاة والسلام- ذلك تواضعًا مع أبيه إبراهيم -عليه السلام- أو قبل أن يُوحَى إليه -صلى الله عليه وسلم- أنه سيد الخلق أجمعين؛ وإلا فإبراهيم -عليه السلام- أفضل الخلائق بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أفضل من الملائكة المقربين، وأفضل من سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فهو ثاني خير الخليقة على الإطلاق؛ لمواقفه العظيمة، وإقامته لأمر الله -سبحانه وتعالى-، وقيامه بدعوة الحق حتى صار مَن يعبد الله -عز وجل- في الأرض مِن بعده ينتسب إليه، فأعلى أمر هؤلاء العباد أن يكونوا متبعين لملة إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.

ولقد قص الله -عز وجل- علينا في كتابه الكريم مواقفه العظيمة في الدعوة إلى الله وتوحيده، وإقامة أمره ودينه مع قلة مَن استجاب له مِن قومه؛ إنما استجاب له رجل واحد وامرأة واحدة، استجاب له لوط -عليه السلام-، قال الله -عز وجل-: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (العنكبوت:26)، وأخبر -سبحانه وتعالى- أن امرأته كانت معه؛ فامرأته سارة وابن أخيه لوط -عليهما السلام- هما ثمرة هذه الدعوة في زمنه.

وإن كانت ثمرة هذا الدعوة لا تقاس بزمن الداعي فقط، وإنما ترى آثارها في الأرض ولو بعد فترة؛ فأنت إذا رأيتَ هذه البقعة التي لا زرع فيها ولا نبت، ولا ماء ولا شيء مِن مقومات الحياة، هذه البقعة التي بين صخور صماء، ومع ذلك تجدها أكثر بقعة في الأرض يؤمها الناس! يؤمها الملايين من البشر في كل ليل ونهار؛ فضلاً عن الملايين التي تتوجه إليها في صلاتهم!

إذا رأيت ذلك علمتَ ثمرة الدعوة إلى الله -عز وجل- كيف تكون، وعلمتَ أن دعوة صادقة تغير وجه الحياة على ظهر الأرض كدعوة إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37).

 فسبحان الله!

تجد هذه البقعة التي لا ثروات فيها بوجه من الوجوه؛ لا أرض تُزرع، ولا معادن يُنقب عنها، ولا سماء تمطر عليها إلا في النذر اليسير، ولا أنهار تجري، ولا عيون تنبع إلا عين زمزم التي تفي بالشرب لا بالزرع، ومع ذلك تجد هذه البقعة أكثر بقعة -بحمد الله- تهفو إليها القلوب، وتحن إليها، ولا يرى أحد أنه قد قضى منها وطرًا، بل هي أمل الملايين من المسلمين.

ولو علم الكفار مقدار الراحة والسعادة في التوجُّه إلى هذه البقعة والنزول بها، وعبادة الله -عز وجل- على أرضها؛ لو علموا ذلك لما عدلوا عن الإسلام بديلاً، ولما ارتضوا لهم وجهة غير البيت الذي جعله الله هدى للعالمين، ولكنهم لم يذوقوا طعم العبادة في هذا المكان فرضوا بأن يتوجهوا إلى غيرها، مع أن قلوبهم مفطورة على أن تتوجه إلى هذه البقعة لولا ما عفى عليها من الشرك والتبديل والتحريف، ولا حول ولا قوة إلا بالله!