الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 23 أغسطس 2016 - 20 ذو القعدة 1437هـ

الخلافة الإسلامية بين الحقيقة والخيال

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد تعرضت قضية الخلافة الإسلامية منذ إعلان إلغائها إلى عصرنا هذا لخطرين كبيرين من اتجاهين متضادين غاية التضاد: فريق يرى أنها صارت ضربًا من الخيال، وفي ذمة التاريخ كما يقولون -أي ذهبتْ إلى غير رجعة-، والبعض قد يراها مشروعًا إخوانيًّا أو إرهابيًّا يستحق التجريم!

ونسي هؤلاء أو تناسوا أن هذا الأمر جزء من الشريعة العظيمة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، تعبِّر عن وحدة الأمة الإسلامية وكيانها، وأن هذا الاسم هو الذي سمَّى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظام الحكم الإسلامي مِن بعده، ففي الحديث الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ -تَعَالَى-، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ -تَعَالَى-، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ -تَعَالَى-، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللَّهُ -تَعَالَى- ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

فالخلافة مِن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- جعل البعض اسمها مصيدة للشباب!

فهذا الفريق جعل الاسم الشريف مصيدة للشباب المتحمس مِن أنحاء العالم الإسلامي المتشوق إلى عزة الإسلام ووحدة المسلمين، لكن بلا بصيرة في الشرع أو الواقع أو التاريخ أو حتى السياسة، وغاب عن هؤلاء أن شريعة الإسلام ليست مجرد الإعلانات أو ارتكاب المجازر باسم الشريعة أو سفك الدماء المعصومة باسم الجهاد في سبيل الله، أو تقطيع الأيدي والأرجل والرؤوس باسم إقامة الحدود، والحقيقة أن الشريعة والجهاد والحدود الشرعية بريئة تمام البراءة منهم.

بدأت المؤامرة -التي يعرف كل بصير أنها مؤامرة على الإسلام وأهله- بدعوى مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق؛ وهكذا يكون التدخل الأجنبي سببًا لدفع الشباب المسلم نحو السقوط في هاوية الانحراف الفكري والعقدي والمنهجي، ولم تقتصر هذه المقاومة على عسكر الأمريكان، بل جعلت جلَّ عملها قتل أبناء الشعب العراقي، ونظـَّر قائدهم في وقتها "أبو مصعب الزرقاوي" أن قتال المرتدين "يعني مَن يخالفونه من أبناء الشعب العراقي" مقدَّم على قتال الكفار الأصليين، وأعطى جماعته الحكم على الناس بالردة بأيسر الظنون وأدنى الاحتمالات!

وقد حدثني أحد إخواننا العراقيين السلفيين أن عدد مَن قتلتهم "القاعدة" في العراق يماثِل -"إن لم يزد "- مَن قتلهم الاحتلال!

وربما لا يفوقهم إلا مَن قتلهم الرافضة!

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد تم تقديم "البغدادي" للقيادة بدفع من ضباط البعث، ثم قُتل "الزرقاوي" وترك خلفًا له "أبو حمزة المهاجر" الذي ترك الأمر "لأبي عمر البغدادي"، وقُتل هذان أثناء اجتماع لهما مع القادة، ثم بأصابع خفية قُدِّم مَن سموه "أبو بكر البغدادي" الذي لم يُعرَف له تاريخ في العلم حتى يُعرف منهجه، أو سابقة في الدعوة حتى يُعرف اسمه ووعيه وكفاءته، أو تاريخ في التربية والإصلاح حتى يعرف ورعه وزهده، وعبادته، ونشأته، أو تاريخ في الجهاد حتى يعرف فقهه وعمله وقدرته، وأمانته وعفته، بل شخص مجهول؛ فلا رصيد ولا تزكية مِن أحد موثوق به، بل بمجرد الانتساب إلى تنظيم دولة الإسلام في العراق وتقديم مَن أحاطوا بالقيادة مِن ضباط المخابرات البعثيين "التائبين" له!

فصارت تؤخذ له البيعة، وبعد الفشل الذريع في العراق؛ انتقل التنظيم إلى سوريا ليعمل من خلال القاعدة هناك "جبهة النصرة"، والمفترض وجود وحدة فكرية مع هذا الفصيل، وتقارب فكري بدرجة أقل مع بقية أحزاب الشام، والعجيب أن أول مَن انقلبوا على بعضهم البعض، وقاتلوا وقتلوا أبناءهم بأبشع القتلات وبلا بينات، بل على طريقة الخوارج في التكفير بالشبهة والظن والجهل حتى ليس التكفير بالتكفير، بل بالاحتمال والاحتياط - هما هذان الفصيلان!

ومقتل الأخ مِن إخوان الشام على سرير غرفة العمليات وهو في التخدير "ذبحًا" لتلفظه بألفاظ النداء لعلي وحسين وهو في غير وعيه وإدراكه؛ ليس بخافٍ على أهل الخبرة والمعرفة بالواقع السوري؛ وقد غاب عن هؤلاء قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ووقعت أبشع المعارك بين جبهة النصرة وأحرار الشام من جانب، وبين مَن انقلبوا عليهم فأعلنوا دولة الإسلام في العراق والشام "داعش"، وتحولت المقاومة السورية للدفاع عن ثورة الشعب ضد "النظام العلوي البعثي" إلى اقتتال داخلي منفر غاية التنفير مِن أي تجربة إسلامية.

ولقد حدثني الإخوة عن عمليات القتل والنهب والغصب، وطرد الناس مِن بيوتهم والأَسر والتعذيب؛ ما كرِه الناس معه هيئة الملتزمين والسنيين، بل كره بعضهم المساجد، ولربما كره البعض الإسلام نفسه؛ فهلك مع الهالكين.

هذا غير نقض العهد والغدر، والفتك بالمسلمين والمجاهدين، وسائر الفصائل بدعوى الردة مع ترك قتال النظام لنفس التأصيل السابق -"قتال الكفار المرتدين مقدَّم على قتال الكفار الأصليين"-، وكل ذلك صب بلا شك في مصلحة النظام البعثي الذي دخل ضباط مخابراته التائبين في الدولة الجديدة، وأتى الشباب المغرور مِن أنحاء العالم الإسلامي وغيره للدخول في الدولة الجديدة ومبايعة صورة "يد" أميرها المجهول بلا أدنى معرفة أو علم؛ لينضموا إلى طابور "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقولون مِن قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" كما جاء في الأحاديث الصحيحة عن الخوارج!

ثم كان إعلان الخلافة الإسلامية بلا مشورة لأحد مِن أهل العلم إلا خاصتهم مِن أهل البدع الذين حدثني أحد الإخوة الأفاضل عن واحد ولوه القضاء الشرعي في إقليم فيه مئات الألوف من المسلمين، وهو لم يتجاوز في تعليمه الصف الثالث الابتدائي! ولم ينتهِ من كتاب الطهارة من كتاب فقه وهو يقضي بين الناس في الدماء والأعراض والأموال، وأهم ذلك: "الذبح" الذي جاءوا به الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إضافة إلى التمثيل بالجثث بعد التعذيب كما حدث للشيخ القائد المجاهد "أبو حسين الديك" من صقور الشام -رحمه الله، وتقبله الله في الشهداء-، وكما حدث للقاضي الشرعي "عبد السميع" الذي لعب الصبيان برأسه الكرة -رحمه الله-.

فحسبنا الله ونعم الوكيل!  

فأي دولة إسلامية هذه؟!

وأي إقامة للشرع فيما حدث ويحدث؟! فضلاً عن أن تكون خلافة إسلامية.

وهل تجد تشويهًا لصورة المسلمين والعمل الإسلامي أعظم من ذلك؟!

لو بذل أعداء الإسلام جهودهم خمسين سنة ما أظن أن يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء!

ولو تأملوا فقط قول عمر -رضي الله عنه-: "مَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلاَ يُبَايَعُ هُوَ وَلاَ الَّذِي بَايَعَهُ" (رواه البخاري)، وفي رواية: "فَلا بَيْعَةَ لَهُ، وَلا بَيْعَةَ لِلَّذِي بَايَعَهُ" (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وطبقوه؛ لعلموا ضرورة مراجعة أهل العلم قبل هذا الإعلان الذي لا حقيقة له، وإنما هو الخيال المَرضي أو المؤامرة الخبيثة ليجتمع الشباب المسلم المخدوع من أنحاء الأرض، محصورًا داخل حدود حمراء لا يملك أرضًا ولا سماءً، ولا يستطيع إلا قتل أهل بلده ودينه -بالتأكيد مع بعض غير المسلمين لذر الرماد في العيون- حتى إذا جاء وقت القضاء عليهم تم بأيسر طريقة كما قد وقع في بلاد أخرى: دفعُ الفصائل المتناحرة نحو بعضهم بعضًا، وتأييد كل منهم بالمال والسلاح والدعم المعنوي، فنحن معكم إلى القضاء على جماعتكم! بل وجماعات غيركم ممن ينتسب إلى العمل الإسلامي، وعلى أقل الأحوال التحوصل ضد المجتمع، حتى يلفظهم المجتمع ويتمنى عودة المستبدين الطغاة بدلاً مِن كابوس الوهم في دولة الخلافة الإسلامية المزعومة.

فإلى الله المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!