الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 26 يوليه 2016 - 21 شوال 1437هـ

صفحات مطوية من القضية الفلسطينية قبل قيام دولة إسرائيل (20)

الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م (2-4)

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد دخلت الثورة الفلسطينية مرحلة مِن الهدوء النسبي في انتظار ما ستسفر عنه لجنة (بل) التي عيَّنتها الحكومة البريطانية؛ للتحقيق في الأوضاع المضطربة في فلسطين بعد انتفاضة شعبية وإضراب عام امتد من مايو 1936م حتى 11 أكتوبر من نفس العام.

وقد استمر عمل اللجنة ثلاثة أشهر، وجاء تقريرها مظهرًا لشيء من التفهم لمعاناة الشعب الفلسطيني، والتي من أجلها ثار، ولكن التقرير وضع في حساباته المطامع الصهيونية في فلسطين فلم يغفلها.

لقد كانت مطالب القيادة الفلسطينية أمام لجنة (بل) هي:

- التخلي عن تكوين وطن قومي لليهود في فلسطين.

- وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين وقفًا فوريًّا وكاملاً.

- منع تملك اليهود للأراضي الفلسطينية.

- حل القضية الفلسطينية وفقًا للأسس التي عليها حلت قضايا الدول العربية الأخرى: كالعراق، وسوريا، ولبنان، بإنشاء حكومة دستورية وطنية مستقلة للفلسطينيين على أرضهم.

لقد أبدى تقرير اللجنة إدراك اللجنة أن في مقدمة أسباب العنف في المنطقة تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واعتبار الفلسطينيين بريطانيا حليفة لليهود وعدوة للعرب؛ حيث جاء في التقرير: "إن رد فعل العرب على هذا الحادث المفاجئ والملفت للنظر -المقصود تصاعد الهجرة اليهودية- كان ردًّا طبيعيًّا، فما كان يخالج القياديين الفلسطينيين منذ عام 1929م أصبح ملموسًا لديهم بحدة أكبر، فبقدر ما تتعاظم الهجرة اليهودية بقدر ما يرتفع الحاجز أمام تحقيق الاستقلال الوطني، وللمرة الأولى بدا أن العرب مهددون بمصير أخطر مِن حرمانهم من الحرية، ومن إبقائهم تحت الانتداب! فحتى الآن ونظرًا لنسبة التكاثر السكاني العالية لدى العرب كان يبدو مستحيلاً أن يصبح اليهود هم الأكثرية في المستقبل المرئي، لكن ما الذي سيحدث إذا اتخذت هذه الموجة الجديدة أحجامًا أضخم؟!

لقد أرغم هذا السؤال الوطنيين العرب على النظر إلى الاستقلالية الفلسطينية واحتمالاتها من زاوية غير معهودة في السابق، وغير واردة لديهم مِن قبْل، وهو طرح عليهم احتمالاً لا يمكن تصوره والقبول به إطلاقًا -أي احتمال قيام دولة يهودية-، واحتمال وقوع عرب فلسطين تحت السيطرة اليهودية؛ فلم يكن من المفاجئ أن تتفاقم التناقضات القديمة، وأن تصل إلى الانفجار من جديد".

وجاء في التقرير عن الانتفاضة الفلسطينية التي قامت في عام 1933م، وما صاحبها مِن أحداث عنف: "وهكذا كتبت بالدم صفحة جديدة من تاريخ فلسطين الموضوعة تحت الانتداب البريطاني، إن هذا التفجر للعنف العربي إنما ينطوي على طابع مهم، يزيد في أهميته ألا مثيل له في السابق، ففي عام 1920م، ثم 1921م، ثم 1929م استهدف العرب اليهود في هجماتهم، أما في سنة 1933م فهم استهدفوا الحكومة البريطانية، فهناك رفض عام للفكرة التي تقول بأن السلطات البريطانية سواء في لندن أو في القدس تحاول الحفاظ على التوازن بين العرب واليهود، فهذه السلطات بات ينظر إليها الآن كليًّا كحليفة اليهود وعدوة العرب.

وبأن الانتداب البريطاني ليس إلا وسيلة لا رحمة فيها لخدمة الإمبريالية البريطانية تحت غطاء الشعور الإنساني تجاه اليهود، وهكذا يبدو أن الوضع في فلسطين لم يفقد مع الوقت طابعه المتفجر، بل على العكس من ذلك بقدر ما يطول الانتداب سيكبر ويشتد عداء العرب له".

وقد تصورت اللجنة القضية الفلسطينية على اعتبار وجود قوميتين مختلفتين على أرض فلسطين، حيث جاء في تقريرها: "لقد نشأ نزاع لا مجال لحله بين مجتمعين قوميين، ضمن الحدود الضيقة لبلد صغير، فهناك حوالي المليون عربي في صراع معلن أو كامن مع حوالي 400 ألف يهودي"

تنبيه: يخالف ذلك ما جاء من تعداد لسكان فلسطين عام 1933م، حيث كان إجمالي السكان مليون ونصف مليون منهم حوالي 450 ألف يهودي، أي كان اليهود حوالي 30% من السكان.

ثم يقول التقرير: "وليس مِن قاسم مشترك بين الفريقين: فالمجتمع العربي هو مجتمع أسيوي، بينما المجتمع اليهودي هو أوروبي إجمالاً، وهما يختلفان في الدين وفي اللغة، ولا سبيل للجمع بين حياتهما الثقافية والاجتماعية، ولا بين أنماط التفكير والسلوك لديهما مثلما لا سبيل للجمع بين أمانيهما الطبيعية، فهذه هي الحواجز الكبرى أمام السلام".

وتضع اللجنة حلاً للقضية يقوم على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فجاء في التقرير: "فسوف يحصل العرب بموجبها على استقلالهم الوطني؛ مما يتيح لهم العمل على قدم المساواة مع سائر البلدان المجاورة من أجل قضية الوحدة والتقدم العربيين، وهكذا يتم تجنيبهم كل خوف من الهيمنة اليهودية، وفي موازاة ذلك يضمن التقسيم إقامة الوطن القومي اليهودي، ويلغي كل احتمالات إخضاع اليهود للهيمنة العربية في المستقبل، ويتيح ذلك تحويل الوطن القومي اليهودي إلى دولة يهودية".

أي صورت اللجنة القضية على اعتبار وجود قوميتين مختلفتين على أرض واحدة يستدعي إقامة دولتين، فبدلاً من أن تعطي الفلسطينيين -أصحاب الأرض- استقلالهم كسائر البلاد العربية المحيطة بهم، وتجعل لهم تقرير مصيرهم، وحكم أنفسهم بأنفسهم - تقتسم أرضهم فيما بينهم وبين اليهود الأغراب عن الأرض، وتجعل لهؤلاء اليهود دولة قومية يهودية تجاور الدولة الفلسطينية؛ لتكون كالزرع الغريب في المنطقة، وشوكة في الجسد العربي تؤلمه وتؤرقه.

وقد جعلت اللجنة ما يقارب ثلث أرض فلسطين للدولة اليهودية المقترحة! مع أن ملكية اليهود وقتها لا تتعدى أكثر من 5 % من أرض فلسطين، وجعلت اللجنة أرض اليهود المقترحة تضم الجليل وشمال فلسطين والسهل الساحلي من الحدود اللبنانية إلى جنوب يافا، مع أن هذه الأراضي أكثر سكانها وملاك أراضيها من الفلسطينيين، ويعدون بمئات الآلاف؛ فكيف سيقبلون وهم الأكثر عددًا والأكبر ملكية للأراضي أن يكونوا في هذا الثلث الممثل للدولة اليهودية، بل جاء في التقرير احتمالية نزوحهم عن قراهم وأراضيهم إلى حيث الدولة العربية المقترحة, حيث أوصت اللجنة بإمكانية إبعادهم رغمًا عنهم إلى خارج الدولة اليهودية إذا لزم الأمر!

- نتائج الإعلان عن تقرير اللجنة:

قوبلت نتائج اللجنة بالرفض من الطرفين الفلسطيني واليهودي، فما إن علم الفلسطينيون بنتائج اللجنة واقتراح التقسيم في يوليو 1937م حتى تصاعدت الثورة الفلسطينية من جديد، والتي دامت هذه المرة حتى صيف 1939م، رغم وحشية القمع البريطاني.

- وكان مِن إجراءات السلطات البريطانية ضد الفلسطينيين:

- حل اللجنة العربية العليا واعتقال كل أعضائها.

- حظر كل الأحزاب السياسية الفلسطينية.

- اعتقال عدد كبير من الزعماء الفلسطينيين.

- إلقاء القبض على الآلاف من الفلسطينيين.

- استخدام الطائرات والدبابات ضد الفلسطينيين العزل لإخماد الثورة بالقوة.

- نسفت القوات البريطانية أحياءً سكنية بالكامل في بعض المدن والقرى بدون تمييز؛ انتقامًا من أهلها.

- شكَّلت المحاكم العسكرية الني أصدرت أحكامًا بشنق العشرات من الفلسطينيين.

وترتب على ذلك: أن سقط أكثر من ألف مناضل فلسطيني برصاص الإنجليز عام 1938م، وتم إعدام 54 فلسطينيًّا شنقًا، كما سقط أكثر من 1200 من المناضلين الفلسطينيين في عام 1939م، وأعدم 55 فلسطينيًّا شنقًا، كما جرح الآلاف من الفلسطينيين خلال هذين العامين.

وقد استطاع الحاج "أمين الحسيني" أن ينتقل إلى لبنان قبل القبض عليه واعتقاله، ليواصل قيادة الثورة الشعبية الفلسطينية مِن المنفى، ثم انتقل إلى العراق، فلما حاول الإنجليز اغتياله فر إلى أوروبا، ولجأ إلى دول المحور المعادية لإنجلترا.